الاســتبداد فــي ثــوب البطــولـــة قــراءة فـــي سرديــات الــحرب الــسودانـــــية

أ/ســـليــم محمــد عبداللــه

حــين يتــحول الاســتبداد إلــى روايـــة بــطولـــية

فـي المشــهد السودانــي المرهق بالدم والخــذلان، تتقاطع الحقيقة مع الدعاية، وتختلط البطولة بالاستبداد حتى يصعب التفريق بين القاتل والضحية.
تُروى الحروب اليوم بلسان من أشعلوها، وتُصاغ السرديات بلغةٍ مزخرفةٍ تُغري السامعين بالعاطفة، بينما على الأرض يعلو صراخ المقهورين
هــكذا تُكــتب روايــة الـــحرب::::
استبــدادٌ يختبئ تحت عباءة البطولة، وخطاباتٌ تُسقى للشعب كدواءٍ للخداع الجماعي

خــلف الســـتارمــن يصـــنع الحــرب لا يـــعرف الـــكرامــــة

من يصنع الحرب لا يعرف الكرامة، بل يعرف فقط كيف يُتقن فنّ الخطابة.
يعرف كيف يزرع في وعي الجماهير شعورًا زائفًا بالعظمة والانتصار، ليُخفي خلفه جثث الأبرياء وأنين الأمهات.
تُرفع لافتات “حرب الكرامة” على مداخل الخراب، وتُصوَّر الدماء كضريبة للشرف الوطني، بينما تُزهق الأرواح في لعبةٍ لا تُبقي ولا تذر.
إنها حربٌ تُدار بالعاطفة لا بالعقل، وبالشعار لا بالهدف، حربٌ تُساق فيها الشعوب كالقرابين باسم الوطنية، لتُخضعها مجددًا لمنظومة الاستبداد نفسها التي ثارت عليها بالأمس

بــلاغـــة الخـــداع كيـــف يُغـــسل الــوعـــي؟
فـــي كــل حربٍ تُخلق سردية، وفي كل سردية تُختلق بطولة.
يُراد للشعب أن يصدق أن الرصاص هو طريق الكرامة، وأن القهر يمكن أن يكون “ضـــرورة وطـــنية”
لكـــن الخـــطابات التــي تتحدث عــن الحريــة لا تُنــطق إلا بعد أن تُغلق السجون على المعارضين، وتُكمم الأفواه التي تنطق بالحقيقة

البــلاغــة فــي زمــن الاســـتبداد تتـــحول إلى أداة تزييف، يُعاد عبرها رسم الوعي الجمعي، ليبدو القاتل مخلّصًا، والمواطن مجرد رقم في دفتر الخسائر.

إنـها بلاغــة الخــداع الــسياسي العســكري التي تُتقنها الأنظمة حين ترتدي ثوب البطولة، لتعيد إنتاج القمع في صورة الانتصار.
تتغير الكلمات، لكن يظل الفعل واحدًا: السيطرة على الإنسان باسم الوطن

المــواطن بيــن مــطرقـــة الحــرب وسنــدان السرديـــة

المــواطــن السودانــي الذي كان يومًا حلمه الحريـــة والــكرامــة، أصبح اليوم وقودًا لمعركة لا تخصه

تحـــت نغمـــة “الاستنـــــفار” و“الـــكرامـــة” يُزجّ بالشباب إلى جبهاتٍ لا تعنيهم، ويُرسم لهم مشهدٌ بطوليٌّ زائف على شاشاتٍ تُدار من غرف السياسة
يُقال لهم إنهم يحاربون من أجل شرف البلاد، بينما هم في الحقيقة يحاربون ليُبقي الآخرون على عروشهم.
الـــكرامـــة التي يُرفع شعارها لم تعد تُترجم في كرامــــة الــمواطــــن، بل في استمرارية الكرسي.

الإعـــلام حيــن يصـــبح شريــكًا فـــي التــــزييف الـــحقائــق

الإعــلام فــي زمــن الــحرب لا يكتفي بالصمت، بل يتحول أحيانًا إلى أحد أدوات القمع.
بدل أن ينقل الحقيقة، يُصبح جزءًا من مسرح الخداع الجماعي، يُعيد تدوير الرواية الرسمية، ويُقدّم للمشاهدين مشهدًا ناعمًا للحرب الخشنة.
الصور تُقصّ، والتقارير تُفبرك، والدم يُعاد تدويره في نشرات الأخبار تحت عنوان “الانتـــصار الوطـــني”

بهذا الشكل، تتحول الكلمة إلى رصاصة، والحقيقة إلى تهمة، والمهنية إلى خـــيانـــة

الاستبــداد لا يمــوت بــل يتــجدد
كــل حرب تُــقــدَّم كحربٍ من أجل “الـــكرامــــة” تخفي في جوفها رغبةً في إعادة إنتاج الاستبداد
من يملك السلاح لا يسلم الحكم، ومن اعتاد السيطرة لا يقبل بالمحاسبة
لذلك، حين تُعلن الحرب باسم الـــكرامـــة، فاعلم أن الكرامـــة أول ما يُذبح على مذبحها

الاستـــبداد يتــقن التــــحوّل: مرة باسم الــدين، ومــرة باسم الوطـــن، ومرة باسم الـــشرف العـــسكري، لكــنه في كــل مرةٍ يبقــى هو ذاتــه استــبدادٌ يتغذى على خوف الناس وصمتهم

الحقيــقة الـــمرة البـــطولــة الحقيقــية فــي قـــول لا

اليــوم، أكثر من أي وقت مضى، يحتاج السودان إلى من يملك شجاعة الكلمة، لا فوهة البندقية.
فالبطولة ليست في أن تُقاتل لتعيد الماضي، بل أن تواجه الحقيقة مهما كانت مؤلمة.
الاستــبداد حين يرتدي ثوب البطولة، لا يبحث عن النصر، بل عن الشرعية المفقودة.
أما الــكرامــة الحقيقية، فهي أن تــــقول ” لا ” حـــين يُطلب منك التصفيق للموت، وأن ترفع صوتك دفاعًا عن الإنســان قبل الأرض، وعن الحريــة قبــل الشــعار

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.