قيادات القوة المشتركة وسقوط الأقنعة (1 – 2)

كتب - عبدالرحمن العاجب

في خضم الحرب الدامية التي تعصف بإقليم دارفور، تتكشف كل يوم وجوه جديدة من المأساة، لا تقتصر على مشاهد الدمار والقتل والنزوح، بل تمتد لتعرّي مواقف القادة الذين طالما رفعوا شعارات العدالة والحرية والدفاع عن المهمشين. اليوم، ونحن نتابع صمت قيادات القوة المشتركة – مني أركو مناوي، جبريل إبراهيم، وعبد الله يحيي والاخرين – تتهاوى أمامنا الأقنعة التي حاولوا طويلاً تثبيتها على وجوههم تحت لافتة “حماية المدنيين” و”الوقوف إلى جانب الشعب”.

من المؤسف أن هذه القيادات، التي تمثل واجهة الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا للسلام، التزمت صمتاً مطبقاً ومخزياً إزاء الانتهاكات الواسعة التي ارتكبها طيران الجيش السوداني ضد المدنيين في ولاية شمال دارفور، في مناطق مثل “الكومة، مليط، طرة، كبكابية، الزرق، وشنقل طوباي، وغيرها من المناطق الاخرى” والتي كانت مسرحاً لقصفٍ عشوائي وممنهج أزهق أرواح مئات الأبرياء، ودمر القرى والممتلكات العامة والخاصة، دون أن يصدر من هؤلاء القادة بيان إدانة واحد أو حتى تعزية لذوي الضحايا.

في مدينتي “الكومة” و “طُرّة” على سبيل المثال لا الحصر شهد السكان قصفًا جويًا مكثفًا نفذه سلاح الطيران التابع للجيش السوداني، وفي مدينة “الكومة” فقط نفذ طيران الجيش السوداني أكثر من “140” غارة جوية أسقط فيها مئات البراميل المتفجرة والصواريخ شديدة الإنفجار، وقُتل في هذه الغارات أكثر من “800” مواطن من الأطفال والنساء والشيوخ والشباب، وجرح المئات، وتم تدمير الممتلكات الخاصة والعامة في المدينة، وفي منطقة “طرة” أسقطت طائرة أنتنوف تابعة للجيش السوداني عدد “7” براميل متفجرة على المنطقة في يوم سوقها الإسبوعي، وفي نصف ساعة فقط قتلت الغارة الجوية أكثر من “400” مواطن من الأطفال والنساء والشيوخ والشباب، وجرحت أكثر من “350” أخرين كان بعضهم جروحهم خطيرة.

ولم تقف إنتهاكات طيران الجيش السوداني عند مدينتي “الكومة” و “طرة” فقط، بل إمتدت لتشمل مدن “مليط وكبكابية والزرق وشنقل طوباي وبعض مدن وقرى ومعسكرات ولايات شمال دارفور الأخرى” التي قتل فيها طيران الجيش السوداني المئات من المواطنين العزل ودمر الممتلكات العامة والخاصة في تلك المناطق، ورغم فظاعة تلك الإنتهاكات، إلا أن هذه الإنتهاكات لم تجد إدانة واضحة ومعلنة من قيادات القوات المشتركة “مني أركو مناوي حاكم إقليم دارفور، وجبريل إبراهيم وزير المالية، وعبدالله يحي عضو مجلس السيادة، وبقية قيادات القوات المشتركة” الذين كانوا يتحدثون بإسم شعب دارفور ومطالبه المشروعة، جميعهم لم يدينوا هذه الإنتهاكات الفظيعة.

وكل تلك الأحداث والإنتهاكات الفظيعة مرّت بهم مرور الكرام، كأنها أحداث هامشية في حرب كبرى لا بواكي لها، والمفارقة المؤلمة أن ضحايا “الكومة” و “طُرّة” والمناطق الأخرى ينتمون إلى الفئات نفسها التي تُرفع صورهم اليوم في مظاهرات التضامن مع ضحايا الفاشر – مدنيون عُزّل دفعوا ثمن حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، لقد صمتوا، وكأن الضحايا لا ينتمون إلى ذات الأرض التي قاتلوا باسمها، وكأن صوت المدنيين لا يستحق أن يُسمع إلا إذا وافق مصالحهم السياسية أو العسكرية.

لكن المشهد تغيّر فجأة بعد سقوط مدينة الفاشر في يد قوات الدعم السريع، فجأة، استيقظ ضمير “مناوي وجبريل وعبدالله يحي وبقية قيادات المشتركة” وبدأت التصريحات تتوالى، والاتهامات تُلقى، والخطابات تفيض بالحديث عن “الانتهاكات ضد المدنيين” و”خطر المليشيا” و”ضرورة حماية المواطنين” أي نفاقٍ سياسي هذا؟ أين كانت هذه الأصوات حين كانت طائرات الجيش – الذي يشاركونه في السلطة – تمطر قرى ولاية شمال دارفور بالقنابل؟ ألم يكن الصمت حينها مشاركة ضمنية في الجريمة؟ لقد بات واضحاً أن معايير هؤلاء القادة لا تُقاس بالإنسانية أو العدالة، بل تُضبط وفق ميزان النفوذ والمصلحة. حين كان الجيش يسيطر، لزموا الصمت تودداً للسلطة، وحين فقد السيطرة، انقلبوا إلى “ضحايا” و”مدافعين عن المدنيين”.

ولاية شمال دارفور، التي عانت لعقود من الحرب والتهميش، وجدت نفسها اليوم ضحية مضاعفة: ضحية الطيران الحربي الذي دمر القرى والمدن، وضحية القيادات التي تخلت عن مسؤوليتها الأخلاقية والسياسية، مدينة الفاشر، عاصمة الولاية، لم تسقط فقط عسكرياً، بل سقطت معها كل الأقنعة التي حاولت إخفاء التناقضات والانتهازية التي تحكم سلوك “قيادات القوة المشتركة” إن صمتهم الطويل عن الجرائم التي ارتكبها الجيش، وصراخهم المتأخر بعد فقدان النفوذ، يكشف أن ما يحركهم ليس وجع المواطن الدارفوري، بل حسابات السلطة والتحالفات.

في نهاية المطاف، لا يمكن لأي قائد أن يدّعي تمثيل المظلومين وهو يصمت عن ظلمٍ يقع أمام عينيه، الصمت أمام القصف والتدمير لا يُبرر، مهما كانت الذرائع السياسية أو الميدانية، لقد خسر “مناوي وجبريل وعبد الله يحيى وقيادات المشتركة الأخرين” ما تبقى من رصيدهم الأخلاقي حين فضلوا السكوت على المجازر، ولم ينطقوا إلا عندما لامست النيران مصالحهم الخاصة .. وهكذا، فإن سقوط مدينة الفاشر لم يكن مجرد حدثٍ عسكري، بل كان لحظة سقوطٍ سياسي وأخلاقي لقياداتٍ طالما ادّعت أنها جاءت لتحمي دارفور، فإذا بها تبيعها بثمن الصمت.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.