قيادات القوة المشتركة وسقوط الأقنعة (2 -2)

كتب - عبدالرحمن العاجب

في المشهد السوداني الراهن، تتكشّف المواقف وتتهاوى الأقنعة الواحد تلو الآخر، وما نراه اليوم من صمتٍ مريبٍ لقيادات القوة المشتركة – منّي أركو مناوي، حاكم إقليم دارفور ورئيس حركة تحرير السودان، والدكتور جبريل إبراهيم، وزير المالية ورئيس حركة العدل والمساواة، وعبدالله يحي، رئيس حركة تجمع قوى تحرير السودان وعضو مجلس السيادة – هو صمتٌ يثير الأسئلة قبل أن يثير الدهشة، هؤلاء القادة الذين حملوا راية الكفاح المسلح تحت شعارات العدالة والإنصاف والمحاسبة، يلتزمون اليوم صمتًا مطبقًا تجاه ملف تسليم المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية، وفي مقدمتهم الرئيس المخلوع عمر البشير، ورفيقاه في درب السلطة أحمد محمد هارون وعبدالرحيم محمد حسين.

قبل سنواتٍ قليلة، كان ذات القادة يملأون المنابر الدولية والمحلية بصيحات المطالبة بتسليم المجرمين إلى العدالة الدولية، باعتبارها السبيل الوحيد لإنصاف ضحايا دارفور، وإغلاق صفحةٍ سوداء من تاريخ السودان، أما اليوم، وبعد أن تقلّدوا المناصب، وشاركوا في السلطة، وتماهوا مع مؤسسات الحكم، غابت أصواتهم تمامًا، لم يعد هناك حديث عن العدالة، ولا تذكير بالمجازر، ولا إصرار على محاسبة من تلطخت أيديهم بدماء الأبرياء .. هل تبدّلت القناعات؟ أم أن الكراسي الناعمة كفيلة بإخماد جذوة الثورة في النفوس؟

وأدّى الصراع الدموي بين الحكومة السودانية والحركات المسلحة الدارفورية في الإقليم إلى أكبر كارثة إنسانية في العالم، ومقتل أكثر من “300” ألف مواطن وتشريد أكثر من “2” مليون نازح موزعين على أكثر من “60” معسكر للنازحين بدارفور، وأكثر “1” مليون لاجئ في شرق تشاد وبعض البلدان الأخرى، وتم حرق أكثر من “4” ألف قرية في إقليم دارفور، وبسبب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والتطهير العرقي والابادة الجماعية التي إرتكبها نظام الانقاد والجيش السوداني بحق شعب دارفور إتهمت المحكمة الجانئية الدولية القائد الأعلى للجيش الرئيس المخلوع عمر البشير وعدد من رموز نظام الإنقاذ بإرتكاب الجرائم المذكورة سابقاً في دارفور وطالبتهم بالمثول أمامها، وإبان أزمة دارفور كان الرئيس المخلوع عمر البشير إعترف بأن عدد الضحايا في حرب دارفور “10” ألف فقط، فيما لازالت الحرب مستمرة في دارفور ولفترة “22” عام منذ عام 2003م وحتى الان.

وبحسب تقارير الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان مثل “هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية” خلال عامي (2003 و2004) نفذ الجيش السوداني وقتها عمليات ممنهجة تضمنت: (قصف جوي مكثف من طائرات أنتونوف ومروحيات هجومية استهدف قرى مأهولة، وحرق القرى بالكامل بعد نهبها، بما في ذلك تدمير المنازل والمزارع ومخازن الحبوب، وقتل المدنيين، وارتكاب انتهاكات جسيمة مثل الاغتصاب الجماعي والعنف الجنسي ضد النساء، وتهجير قسري لمئات الآلاف من السكان إلى معسكرات النزوح داخل السودان أو إلى دولة تشاد، وتلويث الآبار ومصادر المياه لمنع عودة السكان إلى قراهم، وقد أُحرقت مئات القرى في ولايات شمال وجنوب وغرب ووسط دارفور، من أبرزها قرى في مناطق “كتم والجنينة وزالنجي والطينة” وتفيد بعض التقارير إلى أن عدد القرى التي حرقت تجاوز (4) ألف قرية.

وقُدّر عدد القتلى بين عامي (2003 و2004) بما يتراوح بين (180,000 إلى 300,000) شخص، نتيجة العنف والمجاعة والأمراض، وأفرزت الحرب نزوح واسع النطاق، ونزح أكثر من (2.5) مليون نازح داخل السودان، وحوالي (200) ألف لاجئ إلى تشاد، وأحدثت الحرب دمار شامل للبنية التحتية الريفية والزراعة المحلية، وأدت إلى تمزق النسيج الاجتماعي بين المجموعات العرقية في دارفور، ووصفت الأمم المتحدة وبعض الحكومات الغربية ما جرى في إقليم دارفور بأنه تطهير عرقي، وربما جرائم ضد الإنسانية، وفي عام 2005، أحال مجلس الأمن الدولي ملف دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية ICC) ) ولاحقًا، أصدرت المحكمة مذكرات توقيف بحق مسؤولين سودانيين كبار، من بينهم القائد العام للجيش السوداني الرئيس المخلوع عمر حسن البشير، بتهم جرائم حرب وإبادة جماعية.

إن مأساة دارفور لم تكن وليدة الصدفة، بل كانت نتاجًا مباشرًا لتمردٍ مسلحٍ قادته تلك الحركات نفسها في مطلع الألفية الجديدة، تمردٌ حمل معه شعارات الحرية والعدالة والمساواة، لكنه أيضًا فتح الباب أمام واحدةٍ من أعنف الحملات العسكرية في تاريخ السودان الحديث، حين قررت حكومة الإنقاذ في عامي 2003 و2004 حسم الصراع بالقوة، فكانت النتيجة مجازر ودمار ونزوح وتشريد مئات الآلاف من المدنيين، إن من يتحدث عن العدالة لا يمكنه أن يتجاهل مسؤوليته التاريخية والأخلاقية عما جرى، سواء كان في موقع الضحية أو في موقع الفاعل، فالجميع في تلك المأساة مدانون بدرجاتٍ متفاوتة – حكومةً وتمردًا – لأنهم شاركوا في إشعال النار التي أحرقت دارفور.

اليوم، تتهاوى الشعارات وتنكشف النوايا، فالقادة الذين رفعوا لواء العدالة لمجرد الوصول إلى السلطة، لم يعودوا يرون في العدالة أولوية، اختفت المطالبات، وعمّ الصمت، وكأن دماء دارفور قد جفّت، أو كأن العدالة يمكن أن تُختزل في مصلحةٍ سياسيةٍ مؤقتة، إن هذا الصمت ليس مجرد موقفٍ سياسي، بل هو إدانةٌ أخلاقية، وسقوطٌ مدوٍّ لكل الخطابات التي بُنيت على آلام الضحايا، فالعدالة التي يُساوَم عليها ليست عدالة، والمبادئ التي تتبدّل بتبدّل المواقع ليست إلا أقنعةً زائفة سقطت بمجرد ملامسة الضوء.

إن التاريخ لا يرحم، وذاكرة الضحايا لا تنسى، قد يصمت القادة اليوم، وقد يساومون على العدالة من أجل البقاء في السلطة، لكن الحقيقة تظل قائمة: من ارتكب الجرائم يجب أن يُحاسب، ومن تستر عليها شريكٌ فيها، وما لم تُفتح ملفات دارفور على مصراعيها، ويُقدَّم كل من تورط – أكان في القصر أم في الميدان – إلى العدالة، فإن السودان سيظل يدور في حلقةٍ من الدم والنسيان .. فاليوم، سقطت الأقنعة، وبقيت الحقيقة عاريةً أمام الجميع.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.