كمبالا – 5 – يوليو – 2025م
بقلم الباحث: إسماعيل يونس محمد
من الكرسي إلى الفيدرالية: فلسفة الراحة والتنظيم.
في بدايات التفكير الفلسفي السياسي، طُرح سؤال بسيط ظاهريًا، عميق جوهريًا: كيف عرف الإنسان أن “الكرسي” كرسي؟
تُجيب الفلسفة بأن المعرفة تنبع من التجربة الحسية كما ذهب أرسطو، ومن العلاقة بين الحاجة والاختراع كما أكد جون لوك. فالإنسان الأول، في سعيه الدائم لتخفيف المعاناة الجسدية، اكتشف الكرسي لا بوصفه شيئًا جاهزًا، بل كفكرة تراكمت عبر التجربة. الجلوس على جذع، ثم تعديل الجذع ليسند الظهر، ثم إضافة الأرجل، وصولًا إلى شكل الكرسي الحديث – كل ذلك كان تدرجًا نحو التنظيم والراحة.
من شكل الجلوس إلى شكل الدولة: من التجربة الفردية إلى العقد الاجتماعي.
بنفس المنهج التجريبي الذي قاد إلى “الكرسي”، تطورت فكرة الدولة. فالفرد، في مواجهة الفوضى والخوف (كما شرح توماس هوبز في “اللفياثان”)، قبل الدخول في عقد اجتماعي يمنح بموجبه جزءًا من حريته مقابل الأمان.
لكن عندما تحوّلت الدولة إلى كيان مركزي صارم، وبدأت تمارس احتكارًا للسلطة دون تمثيل عادل للتنوع داخلها، برزت الحاجة إلى نموذج جديد: الدولة الفيدرالية.
تمامًا كما لم يعد الكرسي الحجري يلائم الجسد المعاصر، لم يعد الحكم المركزي يلبي حاجات شعوب متعددة الهويات.
الفيدرالية: استجابة فلسفية لعقد اجتماعي أكثر عدالة
من منظور روسو، لا يكتمل العقد الاجتماعي إلا حين يشعر كل فرد أنه جزءٌ حيّ من الكل، دون سحق فرديته. الفيدرالية جاءت لتعالج الخلل في العقود المركزية، عبر منح الأقاليم قدرة على المشاركة لا التبعية.
إنها ليست فقط نظامًا إداريًا، بل تعبيرٌ عن رؤية فلسفية تؤمن بأن السلطة يجب أن تكون موزعة وعادلة، لا متمركزة وقهرية.
فهي تقوم على ثلاثة أسس:
الاعتراف بالتنوع (هوية ومصالح) وإعادة توزيع السلطة (سياسيًا وإداريًا) وتقنين الحكم الذاتي دون تقويض الوحدة.
الفيدرالية .. من معاناة تاريخية إلى توازن سياسي.
الفيدرالية ليست نبتة في حديقة الفلاسفة، بل ثمرة لمعاناة بشرية ممتدة. دول كأمريكا، ألمانيا، الهند، ونيجيريا – لم تتبنَ الفيدرالية بوصفها رفاهًا ديمقراطيًا، بل لأنها كانت الوسيلة الوحيدة لتفادي التفكك أو الحرب الأهلية.
وعليه، فإن جوهر الفيدرالية يتقاطع مع فلسفة “الاعتراف” كما شرحها أكسيل هونيث، حيث يشعر كل مكون داخل الدولة بأنه معترف به، لا مهمّشًا أو تابعًا.
الخلاصة: راحة الجسد وراحة المجتمعات
تمامًا كما احتاج الإنسان إلى فهم حاجاته الجسدية ليبتكر الكرسي، احتاج إلى قرون من الألم والانقسام ليبتكر الدولة الفيدرالية كأداة لراحة المجتمعات سياسيًا.
الفيدرالية، في معناها العميق، ليست مجرد توزيع سلطة. إنها “كرسي الحكم” الذي يراعي شكل الجسد السياسي وتنوّعه، بعد قرون من الجلوس المتعب على أرض المركزية.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.