في الاتجاه الشرقي لولاية شمال دارفور، تتوزع ثلاث محليات مترابطة في الجغرافيا ومتكاملة في التكوين الاجتماعي والتاريخ المشترك، وهي: “اللعيت جارالنبي، الطويشة، وأم كدادة” . ورغم التحديات التي عصفت بمناطق شاسعة في البلاد، إبان حكم الإسلاميين لثلاثة عقود انصرمت، ظلت المحليات الشرقية الثلاث مثالاً حياً لتماسك النسيج الاجتماعي والسلام المجتمعي، ونموذجاً يُحتذى به في التعايش السلمي بين مكونات اجتماعية، وإثنيات وقبائل متنوعة، تجتمع في ثقافة موحدة وجغرافيا واسعة، تمتزج فيها تنوع اجتماعي، وحياة اجتماعية مستقرة في تعايش سلمي رفيع بالخير والجمال.
تمتد المحليات الشرقية: “أم كدادة، اللعيت، والطويشة” ، على رقعة جغرافية واسعة من شرق شمال دارفور، تحدها من الشرق ولاية غرب كردفان، ومن الشمال محلية المالحة، ومن الغرب عاصمة الولاية الفاشر، ومن الجنوب الغربي ولاية شرق دارفور :الضعين بمحلياتها: “عديلة، وأبوكارنكا” . ورغم وعورة بعض الطرق، والمناخ المعتدل الذي يميز هذه المنطقة، إلا أن حركة السكان وتداخلهم الاجتماعي والاقتصادي لا زالت نشطة، ما ساعد على تعميق التواصل الاجتماعي والروابط اليومية بين سكانها، سواء في الأسواق المشتركة أو المناسبات الدينية والاجتماعية.
تتشارك المكونات الاجتماعية في إدارة أهلية موحدة بقيادة نظارة عموم قبائل شرق شمال دارفور، التي تعود تاريخياً لأسرة ضوالبيت عبد الدايم..
وتتعايش بهذه المحليات مكونات اجتماعية متعددة، أبرزها: “البرتي، البديريا، الأسرة السرارية، الفور، البزعا، بطون دار حامد جميعاً، الحمر، التنجر، الميدوب، الزغاوة، المعاليا، الرزيقات، التآمة، المرارييد” ، فضلاً عن حضور كبير لقبائل أخرى.
وبرغم هذا التنوع الاجتماعي العريض، تتشارك هذه المكونات الاجتماعية في إدارة أهلية موحدة بقيادة نظارة عموم قبائل شرق شمال دارفور، التي تعود تاريخياً لأسرة ضوالبيت عبد الدايم، وتُدار حالياً عبر نجله، الناظر الصادق عباس ضوالبيت، بمعاونة شقيقه ووكيله عثمان عباس ضوالبيت، بجانب عدد من العُمد، والمشايخ، والدمالج، والشراتي.
هذا الإطار الإداري الموحد أسهم بصورة واسعة في تحقيق الانسجام والتفاهم الاجتماعي بين المكونات المختلفة، حيث تتوافق جميع العشائر والبطون القبلية المنضوية في نظارة عموم قبائل شرق شمال دارفور على مرجعية موحدة تحت مظلة الإدارة الأهلية، ما جعل من هذه المحليات حالة استثنائية على نطاق ولاية شمال دارفور، في محيط اجتماعي في الغالب يتسم بالنزاعات القبلية وخلل في التعايش السلمي.
ويرى باحثون في علم الاجتماع أن أحد أبرز العوامل التي دعمت حالة التعايش بهذه المحليات هو التاريخ الطويل للتداخل الأسري والتصاهر بين القبائل والمكونات الاجتماعية المتباينة، بالإضافة إلى التراث الشعبي، والثقافة، ونمط الحياة الاجتماعية المشتركة، التي تتجلى في الأعراس، الأغاني، الزي، المعتقدات المحلية، والاقتصاد المعيشي. مشيرين إلى أن هذه المجتمعات تمكنت من المحافظة على التقاليد والعادات الاجتماعية التي تحكم حياتهم المشتركة في الزراعة، الرعي، والتجارة، مما عزز لهم الشعور بالانتماء المتبادل للمكان والزمان.
الأوضاع المعيشية بالمحليات الثلاث تتوزع الأنشطة الاقتصادية فيها بين الزراعة التقليدية، والرعي، والتجارة..
ووفقاً للمعلومات المتوفرة لصحيفة “عين الحقيقة” ، فإن الأوضاع المعيشية بالمحليات الثلاث تتوزع الأنشطة الاقتصادية فيها بين الزراعة التقليدية، والرعي، والتجارة. بيد أن محلية اللعيت جارالنبي تُعد سوقاً رئيسياً لتبادل السلع الأساسية والمحصولات الزراعية، مثل الفول السوداني والصمغ، حيث يلتقي المزارعون والرعاة في فضاءات البيع والشراء باستمرار، مما يعزز من فرص التعاون والتعايش بدلاً من التصادم.
وفي ضوء ذلك، أفاد مراقبون أن هذه المحليات تزخر بموارد طبيعية، وأراضٍ خصبة، ومراعٍ شاسعة، تتكامل فيها مشاهد الحياة الاجتماعية والاقتصادية بين جميع المكونات الاجتماعية، مستدركين: لكن قلما تُسجل في هذه المحليات نزاعات قبلية حادة حول الموارد” مضيفين: أن الفضل يرجع للأعراف المحلية المتوارثة وآليات الإدارة الأهلية في حل النزاعات.
إلى ذلك، ذكر باحثون تربويون بالولاية، في تقارير تربوية وتعليمية في العام الماضي، أن المحليات الشرقية شهدت تطوراً إيجابياً في التعليم، بفضل مجهودات مجتمعية، وحكومية، ومحلية، مؤكدين انتشار المدارس بمراحلها المختلفة بالمحليات الثلاث، إلى جانب النشاط المتصاعد للمبادرات الشبابية، والتنظيمات النسوية في مجالات التثقيف المدني، والإعلام، وبناء السلام.
شدد ناشطون بالمجتمع المدني بولاية شمال دارفور على ضرورة نشر ثقافة الحوار، وحل النزاعات بطرق سلمية..
وبالرجوع إلى مبدأ التعايش السلمي والسلام الاجتماعي بين المكونات الإجتماعية بالمنطقة، شدد ناشطون بالمجتمع المدني بولاية شمال دارفور على ضرورة نشر ثقافة الحوار، وحل النزاعات بطرق سلمية، منوهين إلى أنهم نظموا عدداً من الورش بمحليات الولاية الأخرى، مستندين على إرث المحليات الشرقية لشمال دارفور في التسامح وقبول الآخر.
وبرغم النموذج الإيجابي للتعايش السلمي والسلام المجتمعي في المحليات الشرقية لشمال دارفور، إلا أنها ليست بمنأى عن تحديات ضعف الخدمات الأساسية، من صحة وتعليم وبنية تحتية، بالإضافة لمخاطر تسرب التوترات القبلية من الولايات المجاورة.. لكن القوى المحلية، لا سيما القيادات الأهلية والشبابية، لا زالت تلعب دوراً حاسماً في امتصاص الصدمات وتوجيه المجتمعات نحو الاستقرار.
بيد أن ما يحدث في اللعيت جارالنبي، الطويشة، وأم كدادة من تعايش سلمي رفيع وسلام مجتمعي مستدام، ليس مجرد صدفة جغرافية، بل تراكم لتجربة طويلة من التعايش المبني على الاحترام المتبادل، والتداخل اليومي بين القبائل والمكونات الاجتماعية. ولعل هذا النموذج المحلي يمكن أن يُقدم ك”دراسة حالة” لصناع القرار، والباحثين المهتمين بالتعايش السلمي والسلام المجتمعي لحلحلة المشكلات الإجتماعية بالبلدان التي مزقتها الحروب، والنزاع، والفرقة.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.