منذ انتصار الثورة السلمية في ديسمبر 2018م، وما تلاها من قمع وسحل مارسته أجهزة الدولة المسلحة ضد الثوار، بدا واضحًا أن المؤسسة العسكرية، بتواطؤ مكشوف مع كتائب الإسلاميين، كانت تخشى من التغيير الحقيقي.
بلغ هذا العنف ذروته في ليلتي 8 و9 أبريل 2019م، بهجوم منظم على اعتصام القيادة العامة، في تمهيد واضح لعملية فض الاعتصام الدامية نهاية رمضان. آنذاك، بدأ الشعور الشعبي بأن المؤسسات القائمة لا تحمي الجماهير، بل تقف ضدها، مما فتح الباب أمام دعوات لتسليح الثوار والدفاع عن النفس، وهو ما شكّل بداية انحراف بعض المسارات السياسية عن سلميتها.
الخلافات داخل الجيش وتعدد الروايات حول فض الاعتصام:
بعد تشكيل حكومتي الثورة الأولى والثانية، ظهرت صراعات ضمنية بين الجيوش المختلفة، نتيجة تباينات داخل اتفاقات فض الاعتصام.
جرى اتهام قوات الدعم السريع بالضلوع في عملية الفض، خاصة بعد ظهور صور ومقاطع فيديو توثق وجودهم في ميدان الاعتصام، في مقابل غياب واضح لبقية القوات.
لكن مقاطع أخرى أظهرت قائد لواء البراء المصباح وهو يزيل “جدران الثورة”، مما يؤكد أن العملية كانت منسقة بمشاركة أكثر من جهة، وأن تحميل طرف واحد المسؤولية فيه نوع من التبسيط السياسي والتضليل.
ومع ذلك، ظل السيناريو الأخطر حاضرًا: أن المواجهة بين الجيش والدعم السريع قادمة لا محالة. وقد وقع ذلك بالفعل لاحقًا، لكن قبلها، اجتمع الطرفان على تنفيذ انقلاب 25 أكتوبر 2021م.
انقسام الشارع .. وانحياز الثوار للجيوش المتحاربة:
مع تصاعد الحرب في 15 أبريل 2023م، تكرّست أسوأ مخاوف المراقبين، حيث انقسم عدد من الثوار بين الجيش والدعم السريع، وانخرطوا في القتال، ما مثّل نهاية فعلية للحركة المدنية السلمية، وبدء مرحلة عسكرة الثورة وتحولها إلى صراع مسلح على أسس ثقافية وجهوية.
انشقاق داخل حزب المؤتمر السوداني وتشكيل كيان فدرالي:
مؤخرًا، أعلن عدد من أعضاء حزب المؤتمر السوداني من ولايات دارفور وكردفان، تشكيل كيان جديد تحت اسم “حزب المؤتمر السوداني الفدرالي”، ووقع البيان عضوية المكتب التنفيذي الجديد.
رغم أن حزب المؤتمر السوداني سارع إلى التقليل من الحدث، واعتبر المجموعة مجرد أقلية لم تعد تنتمي للحزب، إلا أن الانشقاق يعكس أزمة أعمق في بنية الأحزاب السياسية، خصوصًا تلك التي لم تعد قادرة على استيعاب التنوع الثقافي والسياسي داخلها.
مراجعة فكرية لمقولات الرموز الفكرية للحزب:
تستند مرجعيات حزب المؤتمر السوداني إلى منهج التحليل الثقافي الذي طوره المفكر محمد جلال هاشم، والذي رأى أن الصراع في السودان هو صراع ثقافي وهيمنة للثقافة الإسلاموعروبية.
غير أن موقفه بعد اندلاع حرب أبريل 2023م، وانحيازه للجيش، ودعوته للتسلح، مثل تراجعًا عن أطروحاته، خاصة أن الحرب الحالية تمثل صدامًا بين أطراف تنتمي لنفس الثقافة التي قال إنها مهيمنة.
على العكس منه، فإن المفكر الدكتور أبكر آدم إسماعيل، صاحب نظرية “المركز والهامش”، ظل أكثر ثباتًا في تحليله، حيث توقع مسبقًا أن عدم الاستجابة لشروط التغيير الشامل سيقود إلى انقسام السودان.
أزمة الاسم… وسرقة “المؤتمر الوطني”:
ما لا يعرفه كثيرون أن اسم حزب المؤتمر السوداني الحالي كان في الأصل “المؤتمر الوطني”، قبل أن تقوم حكومة الإنقاذ باختطاف الاسم وتوظيفه لمشروعها السياسي، ما اضطر الحزب إلى تغيير اسمه في 2005م.
واليوم، يبدو أن التاريخ يعيد نفسه، مع انشقاق مجموعة جديدة من الحزب واستخدامها لاسم “المؤتمر السوداني الفدرالي”، فهل نعود إلى ساحات المحاكم كما حدث في الماضي؟ أم أن المشهد السياسي السوداني لم يعد يحتمل مثل هذه المعارك الشكلية في ظل حرب تمزق الوطن؟
في الختام:
ما يحدث داخل حزب المؤتمر السوداني هو مرآة لما يحدث في السودان عمومًا؛ انقسام ثقافي وسياسي، عجز في الرؤية، وصراع على شرعية الأسماء والمواقف.
يبقى السؤال: هل تنجح القوى السياسية في إنتاج واقع جديد يوازي تضحيات الجماهير، أم سيبقى التشتت سيد الموقف في وطن تمزقه الحرب ويغذيه الصمت؟
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.