بعد إجهاض المبادرة الرباعية الأميركية.. ما الذي تسعى إليه مصر في الملف السوداني!؟

القاهرة - عين الحقيقة

في تطور دبلوماسي يعكس تعقيدات الأزمة السودانية المتفاقمة منذ عقود، وعلى نحو مفاجئ أُعلن عن إلغاء اجتماع اللجنة الرباعية المعنية بحل الأزمة السودانية، المزمع انعقاده في نهاية الشهر الجاري، إلي مطلع اغسطس المقبل، بمشاركة “الولايات المتحدة، مصر، السعودية، والإمارات”.

وفي ضوء ذلك، أكدت مصادر دبلوماسية متطابقة أن القاهرة أبلغت الأطراف المشاركة برفضها القاطع لخارطة الطريق المقترحة من واشنطن، الأمر الذي أدى إلى تقويض المبادرة وإجهاض انعقاد الاجتماع المقرر، بحسب المواعيد المتفق حوله بين أطراف الرباعية.

محلل سياسي: رفض مصر لمبادرة اللجنة الرباعية بشأن الأزمة في السودان، يعكس بوضوح التوجه الاستراتيجي الثابت للقاهرة في دعم المؤسسة العسكرية..

وكانت مساعي اللجنة الرباعية تهدف إلى التباحث حول آليات إنهاء الحرب الدائرة في السودان منذ 15 أبريل 2023، بين الجيش بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة الفريق محمد حمدان دقلو “حميدتي”، والتي أدت إلى كارثة إنسانية ومأساة سياسية غير مسبوقة في البلاد.

وفي سياق الموقف المصري حول الرباعية، أكد الكاتب والمحلل السياسي مجدي محمد مصطفى ماكن رفض مصر لمبادرة اللجنة الرباعية التي تتكون من “الولايات المتحدة الأمريكية، السعودية، الإمارات، مصر” بشأن الأزمة في السودان، والتي دعت إلى مرحلة انتقالية بقيادة مدنية، يعكس بوضوح التوجه الاستراتيجي الثابت للقاهرة في دعم المؤسسة العسكرية السودانية ورفض أي مسار يُفضي إلى تقليص نفوذها او تفكيكها.

وتابع ماكن: ” أن هذا الموقف ليس طارئاً أو تكتيكياً، بل امتداد طبيعي لتحالفات مصر التاريخية مع الأنظمة العسكرية في السودان، مشيراً إلى أن القاهرة تعتبر الجيش السوداني جزءاً من مجالها الجيوسياسي، وأكثر قدرة من القوى المدنية على ضبط الفوضى” .

وشرح المحلل السياسي السياق التاريخي لدور مصر في السودان، لافتاً إلى أن مصر كانت حليفاً دائماً للأنظمة العسكرية في السودان، من عبود إلى نميري ثم البشير، وصولاً إلى دعمها للمجلس العسكري بعد سقوط البشير في 2019″ مستطرداً أن مصر استضافت في تلك الفترة اجتماعات سرية لرموز النظام السابق تحت غطاء “المصالحة الوطنية”، وسعت مع السعودية لتعزيز سلطة العسكر على حساب قوى الثورة.

وانتقد ماكن دور مصر في السودان بشدة، بما وصفه بالنفاق السياسي حول موقف القاهرة تجاه الإسلاميين، قائلاً: “بينما يمارس النظام المصري قمعاً شرساً ضد جماعة الإخوان المسلمين في الداخل، يدعم فعلياً بقايا الإسلاميين في السودان عبر المؤسسة العسكرية التي تهيمن عليها كوادر من النظام السابق، منوهاً إلى أن مصر لا ترى تهديداً من الإسلاميين السودانيين طالما بقوا تحت مظلة الجيش، ويُستخدمون لتفكيك قوى الثورة وعرقلة مسار الانتقال المدني”.

هناك دوافع رئيسة تقف خلف السياسة المصرية تجاه السودان، انطلاقاً من أمن النيل الذي يُعد الجيش الحليف الأكثر تشدداً ضد التعاون مع إثيوبيا في ملف سد النهضة..

ولفت المحلل السياسي ماكن إلى وجود ثلاثة دوافع رئيسة تقف خلف السياسة المصرية تجاه السودان، انطلاقاً من أمن النيل الذي يُعد الجيش الحليف الأكثر تشدداً ضد التعاون مع إثيوبيا في ملف سد النهضة، فضلاً عن التوسع جنوباً؛ إذ ترى مصر في السودان بوابتها الجنوبية في القرن الإفريقي ومنطقة الساحل، علاوة على قطع الطريق لأي نموذج ديمقراطي ناجح، تخشى القاهرة أن يُلهم نجاح الانتقال المدني في السودان، لا سيما القوى المناوئة لها داخلياً.

وبدوره، يقول الكاتب مجدي ماكن لصحيفة “عين الحقيقة” إن الموقف المصري أسهم في إطالة أمد الحرب الأهلية، من خلال دعم طرف عسكري يرفض التفاوض الجاد، وعرقلة المبادرات الدولية التي كان من شأنها إطلاق عملية سياسية شاملة، لافتاً إلى أن هذا الدور عزز الاستقطاب الإقليمي بين محور “مصر، السعودية، الإمارات” من جهة، ومحور “تركيا، قطر، إثيوبيا” من جهة أخرى.

وأضاف الكاتب قائلاً: “بالضرورة أن مواجهة هذه السياسة تتطلب من السودانيين بناء جبهة مدنية وطنية مستقلة عن الاستقطابات الخارجية، مشدداً على أهمية فضح التناقض المصري في المحافل الدولية، والضغط على القاهرة لتغيير نهجها الانحيازي، داعياً إلى تطوير تحالفات أفريقية ودولية بديلة، تدعم خيار الانتقال الديمقراطي الحقيقي في السودان.

ونوه ماكن إلى أن مصر تمارس نفاقاً سياسياً سافراً، فهي تسحق الإسلاميين في الداخل، بينما تقويهم في السودان ضمن صفوف الجيش، بما يخدم مصالحها الاستراتيجية الضيقة على حساب استقرار السودان ومستقبله المدني والديمقراطي.

وفي ذات المنحي، يذهب أحد أساتذة العلاقات الدولية بالجامعات السودانية، والذي فضل حجب اسمه، إلي أن المجتمع الدولي يفتقر إلى إرادة جادة لإنهاء النزاع المستمر في السودان، مرجعاً ذلك إلى تدني أهمية السودان في أولويات القوى الكبرى، مما يتيح استمرار الحرب لسنوات دون حسم في ظل غياب أي ضغط حقيقي لوقف إطلاق النار أو معالجة جذور الأزمة.

مبيناً أن القيادة الحالية للجيش السوداني لا تعبر عن مصالح السودانيين جميعاً، بل تدير الصراع من خارج البلاد، بينما تمرر أجنداتها السياسية والاقتصادية عبر تحالفات مع دول مثل قطر وتركيا وغيرها.

ما يغذي الحرب بشكل فعلي، بالإضافة إلى الانقسام السياسي، هو التدفقات المالية الناتجة عن استثمارات وشركات مملوكة للجيش، وعلى رأسها منظومة الصناعات الدفاعية التي يتجاوز رأسمالها 10 مليارات دولار..

واستدرك أستاذ العلاقات الدولية أن ما يغذي الحرب بشكل فعلي، بالإضافة إلى الانقسام السياسي، هو التدفقات المالية الناتجة عن استثمارات وشركات مملوكة للجيش، وعلى رأسها منظومة الصناعات الدفاعية التي يتجاوز رأسمالها 10 مليارات دولار، و”شركة الساطع للنقل” التي تملك نحو ألفي شاحنة، إلى جانب شركات مثل “زادنا” و”الصادر والوارد”، وجميعها تخضع، حسب قوله، لسيطرة ضيقة من مجموعة عرقية شمالية نافذة داخل المؤسسة العسكرية، مشيراً إلى وجود مجموعات مستفيدة اقتصادياً من الحرب، لا ترى مصلحة في وقفها، بل زادت مصالحها ونفوذها أضعافاً في ظل حالة الفوضى العسكرية التي تشهدها البلاد.

وانتقد صمت المجتمع الدولي تجاه الديناميات الخطيرة، قائلاً: “العالم يتمسك فقط بالقشور، بينما يغض الطرف عن الفاعلين الحقيقيين الذين قد لا يتورعون عن استخدام أسلحة محرمة، طالما أن الأموال غير الخاضعة للرقابة تتدفق إلى أيديهم دون مساءلة”، معلقاً على رفض دولة الإمارات لمقترح توسيع اللجنة الرباعية المعنية بالأزمة السودانية لتشمل قطر وتركيا، واصفًا هذا الموقف بأنه “يعكس تخوّفاً من إشراك أطراف قد تدعم وحدة السودان وسيادته”، محذراً من مغبة استمرار تجاهل هذه الحقائق، الذي يفاقم المأساة السودانية ويعزز من مناخ الإفلات من العقاب، داعياً إلى إعادة هيكلة شاملة للمؤسسة العسكرية السودانية، وفتح تحقيق دولي شفاف حول الأنشطة الاقتصادية المرتبطة بالجيش.

وطبقاً للمعلومات التي وردت في تقرير صحيفة “The Reporter Ethiopia” الإنجليزية، فإن المبادرة الأميركية كانت تسعى لطرح مسار انتقالي سياسي جديد يستبعد القادة العسكريين “البرهان وحميدتي”، بحيث يتم تشكيل حكومة مدنية انتقالية بإشراف دولي وإقليمي، تُمهد لإعادة بناء مؤسسات الدولة وإنهاء الصراع الدموي. وعلى الصعيد الدبلوماسي، نوهت مصادر دبلوماسية مطلعة إلى أن المسؤولين المصريين اعتبروا المبادرة محاولة لتقويض نفوذ الجيش السوداني، الذي تعتبره القاهرة عنصراً ضامناً لاستقرارها الحدودي، علاوة على تأمين مصالحها الاستراتيجية، لا سيما في ملف مياه النيل وسد النهضة.

ووفقاً لوجهات نظر المهتمين بالشأن السوداني، فإن القاهرة باتت تنظر إلى أي مبادرة دولية تستبعد الجيش من العملية السياسية، بوصفها تهديداً مباشراً لتوازناتها الإقليمية.

دبلوماسي: موقف مصر يُقرأ في إطار المخاوف من انهيار الجيش السوداني، الذي يُعتبر آخر حليف لها في الخرطوم..

وفي ذات الإتجاه، قال أحد الدبلوماسيين العرب في تصريح سابق لقناة العربية الحدث: “إن موقف مصر يُقرأ في إطار المخاوف من انهيار الجيش السوداني، الذي يُعتبر آخر حليف لها في الخرطوم، ما يفتح الباب أمام سيناريوهات فوضوية لا يمكن احتوائها، مؤكداً موافقة كل من السعودية والإمارات على المشاركة في اجتماعات الرباعية ومناقشة المقترح الأميركي، إلا أن الموقف المصري المتناقض أدى إلى تفكيك وحدة الرباعية، وتعطيل أي توافق إقليمي ودولي حول المسار السياسي المنشود من اللجنة الرباعية المسنودة من أربعة دول”.

ومن هذا المنطلق، يرى مراقبون أن انقسام المواقف يعكس بالضرورة اختلاف أولويات العواصم الأربع، حيث تميل الرياض وأبوظبي إلى دعم مبادرات تقود إلى تهدئة شاملة، تضمن حماية مصالحها الاقتصادية، وتمنع تحول السودان إلى بؤرة اضطراب مزمنة في البحر الأحمر.

مراقبون: الانقسامات داخل الرباعية الدولية أضعفت الآمال المعقودة على تحريك الجمود الدبلوماسي بشأن السودان..

وفي المقابل، تُظهر القاهرة تمسكاً متزايداً بخيار دعم الحكم العسكري، الذي يضمن وجود الجيش على سدة الحكم، باعتباره الوسيلة الأفضل لضمان مصالحها الأمنية.

ويضيف المراقبون، أن الانقسامات داخل الرباعية الدولية أضعفت الآمال المعقودة على تحريك الجمود الدبلوماسي بشأن السودان، مشيرين إلى أن الرفض المصري الصريح لمبادرة الرباعية يُقلل من إمكانية التوصل إلى توافق دولي فعال حول خارطة طريق جديدة، ويزيد من تعقيد المشهد السوداني، الذي يعاني من التشرذم والانقسامات الداخلية وانهيار شبه تام لمؤسسات الدولة.

فيما يرى محللون سياسيون أن مصر دوماً تتمسك بموقف الحسم العسكري الذي يخالف التوجه الدولي الرامي إلى الدفع بحل سياسي شامل، يضمن مشاركة مدنية موسعة، ويُنهي هيمنة السلاح على المجال السياسي، لافتين إلى أن هذا الرفض يعزز من موقف الأطراف المتشددة، التي ترى في استمرار الحرب وسيلة لإعادة تشكيل موازين القوة، بدلاً من اللجوء إلى التسويات السياسية.

تقارير إعلامية: المبادرة الأميركية افتقدت الواقعية السياسية، في ظل تجاهلها لحجم النفوذ الإقليمي الذي تمارسه دول مثل مصر، وعدم قدرتها على فرض آلية تنفيذ حقيقية على الأرض في السودان..

ومن جانب آخر، ذكرت تقارير إعلامية أن المبادرة الأميركية افتقدت إلى الواقعية السياسية، في ظل تجاهلها لحجم النفوذ الإقليمي الذي تمارسه دول مثل مصر، وعدم قدرتها على فرض آلية تنفيذ حقيقية على الأرض في السودان.

وتابعت التقارير: “إن تجاهل الحقائق الميدانية على الأرض، حيث لا تزال القوات المتصارعة تسيطر كل منها على أجزاء واسعة من البلاد، ما يعزز من رغبتهم في استمرار الحرب لضمان المصالح الإقليمية لحلفائهم” .

وفي ظل تعثر اجتماع الرباعية، يعود الملف السوداني إلى نقطة الصفر، وسط تصاعد المعارك في الفاشر بولاية شمال دارفور، وبابنوسة في ولاية غرب كردفان، وسط تفاقم الأوضاع الإنسانية، مع عجز المنظمات الدولية عن إيصال المساعدات الإنسانية للمدنيين العالقين في هذه الولايات.

ويبدو أن غياب الإرادة السياسية الموحدة، سواء داخل السودان أو بين الفاعلين الإقليميين والدوليين، سيطيل أمد الحرب، ويجعل من السودان ساحة مفتوحة لصراع طويل الأمد، تتشابك فيه المصالح الإقليمية والدولية على حساب استقرار الشعب السوداني.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.