رأيت:
نيالا كما لم أرها من قبل.. سيول بشرية تجتاح المدينة من أقصاها إلى أدناها، زاحفة وراجلة وراكبة.
رجال يتدلّون كعناقيد العنب من شاحنات ضخمة، فتيات يطفرن من نوافذ السيارات الصغيرة، يلوحن بأعلام السودان.
من كل فج خرج أهل نيالا كتلاً وأفواجاً تتلاحق، أمواجاً تتبعها أمواج، شلالات بشرية تتدفق عبر الشوارع الأربعة، لتلتقي كلها عند ساحة “السُحيني”، أو قل مسرحها الكبير.
سمعت:
غناءً يعلو.. شباب وفتيات يضربون الأرض بأقدامهم، يصفقون بإيقاع، ويرددون بلحن مموسق:
“حمامة طيري لي بي فوق، الرئيس بقى دقلو”
في هذا الحداء إشارة ربما تتجاوز مجرد العبارة، إلى مغزي رمزي عميق؛ إذ لم يسبق لأهل هذه الأصقاع أن تخيّلوا رجلاً منهم يتربع في موقع “الرئيس”.
وبين التصفيق والرقص والنقاقير، كانوا يطرقون الأرض كأنهم يستدعون حمامة لا تُرى لتحلق فوق ساحة السُحيني، لتشاطرهم نشوة اللحظة.
شعار الثورة الخالد “حرية، سلام، وعدالة” يعود أيضا لكن بخاتمة مواكبة جديدة هي: “تأسيس.. خيار الشعب.”
قرأت:
من أعمق ما وقعت عليه عيناي اليوم، سطور تقول:
“إن ما يُميز لحظة نيالا ليس فقط كسر الاحتكار التاريخي للسلطة، بل إعادة تعريف الشرعية ذاتها.
الدولة لم تَعُد تمثيلاً فوقيًا لنخب ضيقة، بل غدت مرتبطة بمدى تعبيرها عن الإرادة الجماهيرية. ومن يشكك في ذلك، فليُصغِ جيدًا لصوت نيالا.”
ففي نيالا، لا تُلقى الخطب الجوفاء.
بل يعبّر الناس عن موقفهم بجسارة الحضور الحي.
لقد انزاح مركز الفعل السياسي من الخرطوم نحو تخوم السودان؛ من دارفور، ومن نيالا تحديدًا، يتدفق وعي جديد بالدولة — لا بوصفها سلطة، بل كعلاقة شرعية بين الناس والمؤسسات.
مليونية نيالا لم تكن نهاية، بل بداية.
بداية لزمن سوداني مختلف، تُصبح فيه الجماهير مصدرًا للسلطة، لا مجرد وقود لصراعات النخبة.
زمن تُرسم فيه الخرائط من القاعدة، وتُعاد فيه صياغة العقود الاجتماعية على أسس الشراكة والعدالة والإرادة.
ثم كتبت:
يبدو أن قفاز التحدي الحقيقي قد انتقل من “كاودا” إلى “نيالا”.
كاودا التي كان البشير يحلم فقط بأن يصلي فيها مجرد صلاة جمعة،
لكن نيالا اليوم تجاوزت ذلك الحلم، وأعلنت تحديها العلني لمركز يترنح على شفا الانهيار.
لم تعد نيالا مجرد مدينة كبرى من مدن السودان القديم.
إنها اليوم “مضمار” جديد في سباق العواصم البديلة.
وإن كان الفوز لن يُحسم بضربة قاضية،
فإن “نقطة نيالا” تسجَّل اليوم بثقل هذه اللحظة التاريخية.. لا بخفة الخطب الجوفاء والكلام.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.