التعايشي وكسر احتكار المركز للسردية الدبلوماسية في السودان الجديد

رئيس الوزراء محمد حسن التعايشي، في زمن التحولات الكبرى، لا تُبنى مكانة الدول الجديدة بالانتظار على أبواب الآخرين، بل بصياغة موقعها في العالم بيدها. فالدبلوماسية الحقيقية ليست مجرد رد فعل على ضغوط الخصوم، بل هي فن تحويل الحقائق الميدانية إلى شرعية سياسية راسخة ومحترمة. السودان الجديد اليوم يملك الأرض، ويسيطر على الموارد، ويمتلك الرؤية لمستقبل مختلف، لكنه بحاجة ماسة لأن يمتلك أيضًا صوته الواضح والمسموع في المحافل الإقليمية والدولية.
دولة رئيس الوزراء،
إن أخطر ما يواجه السودان الجديد اليوم لا يقتصر على صراع السلاح في الميدان، بل يمتد إلى صراع الإرادات حول من يملك حق رسم مسار تحالفاتنا وعلاقاتنا الدبلوماسية. فالمركز، رغم ارتهانه التام للخارج – في صورة استعمار ما بعد الكولونيالي عبر النفوذ المصري وهيمنة أجنداته، وارتباطه بمحاور كإيران وروسيا – يعلن تحالفاته بلا تردد، ثم يستخدم سلاح الابتزاز السياسي والإعلامي لفرض قيود على خياراتنا، وكأن اختيار شركائنا السياديين امتياز يمنحه متى شاء، لا حق أصيل لنا كقوة سيادية. هذه المعادلة تُبقي السودان الجديد في موقع دفاعي دائم، وتمنح خصومه فرصة احتكار السردية أمام العالم.
ما يواجهه السودان الجديد ليس مجرد خصومة سياسية مع بقايا المركز في بورتسودان، بل صراع على من يكتب الرواية التي تتبناها العواصم المؤثرة وتبني عليها مواقفها. المركز يعلن تحالفاته حتى وهي تضعه في أحضان الإخوان المسلمين وحماس وإيران، بينما السودان الجديد، رغم شرعية تحالفاته وأهميتها الاستراتيجية، يختار الإبقاء عليها في دائرة السرية خشية الابتزاز. لكن هذه المعادلة يجب أن تنكسر، لأن الاختباء في الدبلوماسية يترك الآخرين يكتبون قصتنا بدلاً منا، ويحوّلنا إلى متفرجين على مسرح السياسة الدولية بدل أن نكون فاعلين فيه.
منذ اندلاع الحرب في 15 أبريل، لم يعد الصراع مجرد نزاع داخلي، بل تحوّل إلى عقدة جيوسياسية معقدة، تكشف عن شبكات تحالفات قديمة الجذور وأخرى مستحدثة. حكومة بورتسودان ترتكز على مصر التي ما زالت تتعامل مع السودان بعقلية ما بعد الكولونيالية، وعلى قطر وإيران وحماس كمحور دعم مالي–سياسي–عسكري، وتتنازل عن أجزاء من السيادة والموارد، مثل مثلث حلايب وشلاتين وأبو رماد، في سبيل تثبيت سلطتها. هذا التموضع يضعها في قلب بيئة الإرهاب العابر للحدود، كما تراها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في دورته الثانية، التي جعلت مكافحة الإرهاب محورًا مركزيًا لسياستها الخارجية، مستهدفة جماعة الإخوان وحلفاءها.
انتهاكات بورتسودان – من القتل على الهوية، واستهداف المدنيين، وتدمير البنية التحتية، واستخدام الاغتصاب كسلاح حرب – تماثل في منهجيتها جرائم تنظيم داعش في سوريا والعراق. هذه الطبيعة الإجرامية تمنح أي تحالف مضاد فرصة واقعية لحشد دعم سياسي وأمني دولي، إذا ما أُحسن توظيفها دبلوماسيًا.
في هذا السياق، يبرز تحالف تأسيس كقوة مهيمنة على أقاليم تنتج أكثر من 80% من صادرات السودان – الذهب، الصمغ العربي، الثروة الحيوانية، والمعادن – ويمتلك فرص تحالفات استراتيجية مع الإمارات، وكينيا، وإثيوبيا، ويوغندا، وجنوب السودان، وتشاد، وإفريقيا الوسطى، وجنوب أفريقيا. هذه ليست مجرد شراكات اقتصادية، بل بوابات إلى فضاءات جيوسياسية يمكنها توفير دعم دبلوماسي، واقتصادي، وأمني متكامل. غير أن الحذر المفرط والسرية في إدارة هذه التحالفات يحد من قدرة تأسيس على تحويل نفوذه الميداني إلى شرعية سياسية معترف بها على الساحة الدولية.
المفارقة البنيوية واضحة: المركز يعلن تحالفاته رغم الارتهان الكامل، بينما يؤثر تأسيس السرية رغم شرعية تحالفاته ومشروعه الوطني. هذا الخلل يمنح خصوم السودان الجديد فرصة لفرض خطاب العزلة عليه. ولذا فإن الانتقال إلى سياسة خارجية علنية، جريئة، وواثقة، لم يعد خيارًا ثانويًا، بل ضرورة استراتيجية لكسر احتكار المركز للسردية، وتثبيت شرعية السودان الجديد في بيئة إقليمية تبحث عن بديل حقيقي لمحور الإخوان–إيران.
اللحظة الراهنة تحمل نافذة نادرة لإعادة صياغة رواية السودان الجديد، رواية تُبنى على السيطرة الفعلية على الأرض والموارد، وعلى مشروع سياسي واضح لدولة مدنية ديمقراطية، وتحوّلنا من قوة قائمة على الأمر الواقع إلى شريك أساسي في الأمن الإقليمي ومكافحة الإرهاب. إن تفعيل هذه الاستراتيجية سيضع السودان الجديد في قلب منظومة القرار الدولي، لا على هامشه.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.