الانسحاب كواحد من فنون الحرب: قراءة في تكتيك الدعم السريع

الخبير العسكري احمد عبد العاطي

حين يكون التراجع بوابة الانتصار
في مسرح التاريخ العسكري، لا يخطئ الراصد المحايد أن بعض أعظم الانتصارات لم تولد من وهج الهجوم المباشر، بل من دهاء الانسحاب المتقن. التراجع، في عرف القادة الكبار، لم يكن يومًا تعبيرًا عن الهزيمة، بل كان أداة استراتيجية تُدار بها المعركة بعين الصقر، لا برعشة اليد المرتبكة. ذلك أن القائد البصير يعرف متى يتقدم ومتى يتراجع، ومتى يفتح ثغرة في جسده ليحقن فيها قوة جديدة، تندفع حين تحين اللحظة الحاسمة.
هكذا فعل هانيبال في معركة “كاناي” حين جعل الانسحاب خدعةً بصرية داخل ميدان الحرب، فابتلع خصومه كما يبتلع الجوف فرائسه. وهكذا انسحب كوتوزوف من موسكو، ليس عن عجز، بل ليستدرج جيوش نابليون نحو مصيرهم البارد والمحتوم. وكلما كرّت الأيام، رأينا كيف بات الانسحاب تكتيكًا مُركّبًا، يُراد به الهجوم بأدوات أخرى: الزمن، والموقع، والإنهاك، والاستنزاف.
واليوم، في السودان، لا يمكن قراءة انسحاب قوات الدعم السريع من مناطق كجزيرة ووسط الخرطوم إلا في هذا الإطار المركّب نفسه. فحين تنسحب قوة مسلحة من نقطة تماس، لا يعني ذلك بالضرورة نهاية المعركة، بل أحيانًا يعني بدايتها الحقيقية، حين تنتقل من حرب المواقع إلى حرب المبادرة، ومن المواجهة المباشرة إلى الاستنزاف الذكي.

أولًا: الانسحاب لا ينفي القدرة على إحداث تغيير جذري
رغم انسحاب قوات الدعم السريع من بعض المدن الرئيسية، إلا أن هذا لا يعني أنها فقدت أدوات الفعل الميداني. على العكس، يمكن لهذا التراجع أن يكون مدخلًا لإعادة ترتيب الأوراق، والتجهيز لهجمات موجعة في العمق، متى ما توفرت الظروف الملائمة. القوة، في نهاية المطاف، ليست مجرد وجود جغرافي، بل قدرة على التأثير. والتأثير، في ظروف كحرب السودان، لا يتحقق فقط بالسيطرة على الخرائط، بل بالتحكم في مفاصل الإمداد، وخلق بيئة حرب مرنة، متحركة، تُربك خصمك في كل جولة.
إن تكتيك إعادة التمركز الذي تتبعه قوات الدعم السريع اليوم قد يمنحها فرصة ذهبية لتعزيز قدراتها، في أرضٍ أقل عرضة للانكشاف الجوي، وأكثر توافرًا لمصادر الدعم اللوجستي، وأقدر على الصمود، خاصة مع ازدياد حدة الاستقطاب المسلح داخل بيئات لا تزال تُنتج المتغيرات بوتيرة متسارعة.

ثانيًا: الأرض تصنع الفارق… والانسحاب يمنح ميزة نسبية
في مناطق كالخرطوم والجزيرة، تمارس البيئة نفسها نوعًا من الحياد المنحاز ضد القوات المتحركة. الاختناق السكاني، الطبوغرافيا المكشوفة، التهديد الجوي الدائم، والانكشاف الإعلامي، كلها عوامل تُضعف من فعالية الحضور القتالي، خاصة إذا كانت الأرض نفسها لا تمنحك غطاءً كافيًا أو حاضنة موالية.
ولذلك، فإن الانسحاب من هذه المناطق يمنح قوات الدعم السريع مرونة في اختيار أرض المعركة، والتموضع في بيئات أكثر وعورة وأقل قابلية للرصد، كما حدث في جبال الشيشان أو أدغال فيتنام، حيث كانت المعرفة بالأرض، لا كثافة النيران، هي التي تحسم النزال.

ثالثًا: الانسحاب كوسيلة لفك الحصار واستعادة المبادرة
لا تكتمل أي عملية عسكرية دون خطوط إمداد آمنة ومستقرة، ولا يستقيم الهجوم إن كانت الموارد مُشتتة بين الحصار والمواجهة. والانسحاب، في هذا السياق، ليس إلا عملية لإعادة وصل ما انقطع، وتفكيك الحصار المضروب من قبل القوات المعادية.
مثلما فعل الثوار الشيشان حين انسحبوا من غروزني، ثم عادوا بعد سنوات بأسلوب أكثر تنظيمًا وفعالية، قد يكون انسحاب الدعم السريع مناورة لفك الطوق، تمهيدًا لجولة أكثر حسمًا، وأقل استنزافًا.

رابعًا: صناعة الوهم لدى الخصم… فخ الانتصار الزائف

من أخطر ما قد يُبتلى به الجيش، هو وهم النصر. أن يخال لنفسه أنه حسم المعركة لمجرد أن خصمه انسحب، دون أن يُدرك أن المعركة الكبرى لم تبدأ بعد. إن هذا الشعور بالزهو قد يُدخل الخصم في حالة استرخاء ميداني، وتراخٍ سياسي، ويجعله أقل تيقظًا أمام تكتيكات مباغتة أو تحول في مسار الحرب.
حين يظن العدو أنه انتصر، بينما ينسحب خصمه إلى عمق استراتيجي آمن، فإنه بذلك يُسلّم نفسه إلى كمين أكبر، وقد يُفاجأ حين يجد نفسه محاصرًا بين نيرانٍ لم يكن يراها قادمة.
إن قراءة التحولات الميدانية في السودان، لا سيما انسحاب قوات الدعم السريع من مواقع كالخرطوم والجزيرة، لا يمكن اختزالها في منطق الربح والخسارة الظاهري. فالحرب، كما علّمتنا التجارب الكبرى، لا تُخاض بالسلاح وحده، بل بالعقل، والزمن، وحسن التقدير. ومن يُحسن الانسحاب، يعرف كيف يعود. ومن يُتقن الانتظار، يعرف متى يضرب.
ولعل الأيام القادمة وحدها كفيلة بكشف ما إذا كان ما نشهده اليوم تراجعًا اضطراريًا، أم مناورة عبقرية تمهّد لتحول استراتيجي يغيّر شكل المعركة.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.