تأسيــــسُ عــــهدٍ جــديدٍ للـــــسودان.. مـــن خطـــاب الأزمــــة إلى خـــطاب التأسيـــس.. الســودان يعيد ترتيـــب أولوياتـــه التـــاريخـــية

أ/سليــــم محمــــد عبداللـــه

هــــكذا تبـــدو الحكايـــة والروايــــــة

هـــكذا تبــــدو الحكاية حــــين يخرج الوطن من بــــين ركام الحرب لينطق بالحقائق المؤجلة.
وحين يتكلم التاريخ، تصمت البنادق، وتعلو الكلمة التي تُبنى بها الأوطان.

في هذا المنعطف المفصلي، جاء الإلقاء التاريخي لحكومة التأسيس بقيادة الفريق أول محمد حمدان دقلو، ورئيس مجلس الوزراء الأستاذ محمد حسن التعايشي، وحاكم إقليم دارفور الدكتور الهادي إدريس يحي، ليعلن بوضوح أن السودان على أعتاب مرحلة جديدة تتجاوز الفوضى والانقسام إلى وعيٍ وطنيٍ جامعٍ يعيد ترتيب الأولويات على أساس العدالة والمواطنة والضمير.

لقـــد حضــــر اللقــــاء جمع غفير من القيادات العسكرية والمدنية والسياسية والإدارات الأهلية، والمرأة، والجرحى، وممثلي المجتمع المدني، في مشهدٍ أعاد للسودان روحه التي غابت بين دخان الحرب وضياع الأمل.
ولم يكن هذا الخطاب مجرد حدثٍ سياسي، بل كان نداءً وطنياً لإنهاء عهد الأزمات وبدء عهــــد التأســــيس

مـــن الـــذاكــــرة إلى الــــــوعـــي الوطــــني

منـــذ انـــدلاع حـــرب الخامــــس عــشر من أبريل عام 2023، لم يعد السؤال: من المنتصر؟؟؟ بـــل مـــن الـــخاسر؟
والإجابـــة كانــــت دائــــمًا واحـــدة: الوطـــن

لقـــد عاش الســــودان أزمـــاتٍ متراكمة امتدت جذورها لعقودٍ طويلة، حيث ورثت كل حكومة فشل سابقتها وأضافت إليه مزيدًا من الانقسام والتدهور.
ومع مرور السنين، تحولت الأزمة من سياسية إلى بنيوية، تمس هوية الدولة، وعدالة السلطة، وكرامة المواطن.

لـــكن خـــطاب حكومة التأسيس جاء ليكسر هذا الجمود، ويعيد تعريف السياسة بوصفها فن الإصلاح لا إدارة الأزمات، ورسالة بناء لا أداة صراع.
إنه خطاب يخاطب الضمائر قبل العقول، ويزرع الأمل قبل الوعود.

كلـــمات الهـــادي إدريـــس تشـــريح الجرح وإضـــاءة الـــطريـــق

فـــي خطابـــه العمــــيق، وضـــع الدكتور الهادي إدريس يحي إصبعه على الجرح الذي ظل ينزف منذ استقلال السودان، محدداً نقطتين أساسيتين في تشخيص الأزمة السودانية:

النقـــطـــة الأولــــى – الأزمـــة الخــــارجيــــة::::
تتمــــثل في الحــــكومات التي تعاقبت على حكم السودان منذ عام 1956، حيث تدهور الوضع الوطني منذ اليوم الأول للاستقلال، عندما مارست تلك الحكومات سياسة التجاهل والتهميش، بل والأسوأ، استغلت الأجهزة الاستخبارية في تأجيج النزاعات القبلية والعنصرية بين أبناء الوطن الواحد، لتقسيم المجتمعات وإضعاف وحدتها الداخلية.

لقـــد تحـــولــــت السلــــطة إلى منصة للسيــــطرة، لا وسيلــــة للخدمـــة، وأصــــبح الســــودان يعــــيش في دوامة من الصراعات المفتعلة التي صنعتها نُخب المركز على حساب الهامش.

النــــقطة الثـــانية – الأزمــــة الداخليـــــة::::
وهـــي الأخـــطر والأكثـــر تعقـــيدًا، إذ تفاقــــمت في ظل حكومة النظام السابق التي دمرت النسيج الاجتماعي والأخلاقي والإنساني.
لقد تفشى الفساد، وتم تسييس القبيلة والدين، وتجزئة المجتمع السوداني إلى ولاءات ضيقة، حتى تحولت القيم إلى شعارات فارغـــــة

وكمـــا قـــال الــــهادي إدريــــس:

نحو 80% مــن السودانيين هــم من أهل الهامش… الهامش الجغرافي، والاقتصادي، والسياسي، والاجتماعي والثقافي. هذه الحقيقة لا يمكن تجاهلها إن أردنا بناء وطنٍ جديد

 

بهـــذه الكلـــمات، لم يكــــتفِ الـــهادي إدريـــس بوصف الواقع، بل دعا إلى إعادة تأسيس الدولة السودانية على عقدٍ اجتماعيٍ جديد يردّ الاعتبار لكل من ظُلِم، ويُعيد بناء ما تهدّم من ثقــة وكرامـــــة وإنسانـــــية

من الأزمـــة إلى التأسيــــس بـــين القــــول والفـــعل

لقـــد مــــثّل خطـــــاب حكومــــة التأسيــــس لحظة مصارحة وطــــنية نادرة، إذ لم يتحدث القادة بلغة المنتصرين، بل بلغة المراجعة والمسؤولية.
فحين تحدث الفريق أول محمد حمدان دقلو، حيث ترحم علي الشهداء منذ الاستقلال الي لحظة خطابه التاريخي ثم عن الجرحي والمصابين وعودة الــحميدة لمفقودين

ثم دعا بصدقٍ إلى وقف الحرب والانحياز الكامل للشعب، مؤكدًا أن لا مستقبل للسودان في ظل استمرار نزيف الدماء

ثـــم تحـــــدث رئيس مجلس الوزراء
الأســـــتاذ محــــمد حـــسن التعايشي ، فقد تناول فلسفة الدولة المدنية من زاوية جديدة والاستفادة من الأخطاء والتجارب السابقة التي دمرت السودان عبر الحكومات السابقة التي دمرت السودان،ووطنه وشعبه وتفشت وانتشرت في النظام السابق مؤكدًا أن العدالة ليست شعارًا سياسيًا بل قاعدة وجود الدولة نفسها، وأن السودان لا يمكن أن ينهض ما لم يتم دمج التنوع في صميم هويته

لقد جسد هذا اللقاء الثلاثي بين دقلو والتعايشي والهادي إدريس معادلة وطنية نادرة تجمع بين الإرادة السياسية، والوعي الفكري، والضمير الأخلاقي.

حـــين يتــــكلم الوطن… يصــــمت الــــصـــراع

إن ما يجعل هذا الخطاب مختلفًا هو أنه لا يتحدث من داخل القصور، بل من قلب الجرح السوداني.
خطاب يضع الأصبع على الحقيقة:
أن الحرب لم تكن قدرًا، بل نتيجة لسياساتٍ تراكمت منذ فجر الاستقلال.

منذ عام 1956، وحتى اليوم، ظل السودان أسير نخبة مركزية تجاهلت الأطراف، واحتكرت القرار والثروة، فكان أن تفشّت القبلية كوسيلة دفاع عن الهوية، لا كروحٍ من الوحدة.
لكن اليوم، يتبدّل المشهد.
فالوطن بدأ يتحدث بلسان الجميع، من الهامش إلى المركز، ومن القرى إلى المدن.

النـــداء الأخـــير إلى الضــــمير الســــوداني

لقد آن الأوان أن نغلق صفحة التاريخ التي كُتبت بالدماء، ونفتح صفحة تُكتب بمداد الوعي والمسؤولية.
آن أن نتحرر من أوهام الماضي، ومن عقلية الاستحواذ والتسلط، وأن نؤمن بأن السودان لا يُبنى إلا بجميع أبنائه، لا ضد بعضهم.

من خطاب الأزمة إلى خطاب التأسيس، تتبدل المفاهيم، وتتغير اللغة، ويولد ضمير وطني جديد يقول:

لن نعود إلى الوراء، ولن نسمح للقبيلة أن تكون بديلاً للوطن، ولا للسلطة أن تكون بديلاً للعدالة

التأسيـــس بالعــــدل:::؛ســــر استــــقـــرار الــــدول

استقرار الدول لا يُبنى على القوة وحدها، ولا على الشعارات، بل على قوة المؤسسات واحترام القـــــانـــــــون
ثــــلاث سلـــــطات تشـــــكل العمـــــود الفقــــري لأي دولـــــة:::::

اولأ الــــسلطــــة التـــــشريعيــــة عــــــقل الدولــــة
تصنع القوانين العادلة، تمثل إرادة الشعب، وتضع الأسس التي تبني الثقة بين المواطن والدولة السودانيـة الحديــثة

ثانـــــــيأ الــــــسلـــطــــة الــــتنفــــــيذيـــة ذراع الــــدولــــة
تطبق القوانين، تقدم الخدمات، وتحمي المواطنين. الفعالية والنزاهة هنا تصنع الأمن والاستقرار، بينما الفساد يعمّق الفوضى.

ثالثـــــــأ الســــلطة القــــــضائية ضمـــــير الـــــدولـــــة
تحمي الحقوق، توازن بين السلطات، وتضمن العدالة للجميع. القضاء المستقل هو صمام الأمان الوطني، ومن دونه تنهار الدولة مهما كانت القوانين أو التنفيذ قويًا.

التكامل بين السلطات = استقرار دائم
حين تعمل التشريعية والتنفيذية والقضائية في توازن واحترام للقانون، تنشأ دولة قوية، عادلة، ومستقرة، قادرة على مواجهة الأزمات وبناء مستقبل أفضل لكل مواطنيها

الدولة القوية ليست تلك التي تملك السلاح، بل تلك التي تملك عدالة المؤسسات

وهكذا، من رماد الحرب، ومن بين أصوات الضياع، ينهض السودان…
ينهض ليقول للتاريخ:
ها نحن نبدأ من جديد، بعقلٍ أكثر نضجًا، وبوطنٍ يسع الجميع

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.