قضية السودان ضد الامارات: سقوط حكومة “بورتسودان” في المعركة القانونية والأخلاقية
نيروبي – عين الحقيقة
ما بين مارس الماضي ومايو الجاري سكب عدد كبير من الخبراء القانونيين والمهتمين حبراً كثيفاً في القضية التي شغلت الرأي العام والأوساط القانونية، وهي الدعوى التي تقدم بها السودان ضد الامارات، وبالعودة للوراء قليللاً، وفي الخامس من مارس – 2025، تقدمت حكومة “الأمر الواقع” السودانية في بورتسودان بطلب ضد دولة الإمارات العربية المتحدة أمام محكمة العدل الدولية، متهمةً إياها بانتهاك التزاماتها بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، وذلك من خلال تقديم دعم عسكري ومالي مستمر لقوات الدعم السريع، ويزعم السودان – بحسب الدعوى أن هذا الدعم ساهم في حملة إبادة جماعية ضد إثنية المساليت في غرب دارفور.
وتُعنى محكمة العدل الدولية، ومقرها لاهاي بهولندا، بالنزاعات بين الدول وانتهاكات المعاهدات الدولية، ويعد السودان والإمارات من بين الدول الموقعة على اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية ومعاقبة مرتكبيها لعام 1948م وللفصل في هذه القضية عقدت محكمة العدل الدولية اليوم جلسة، للبت في قضية تقدم بها السودان ضد دولة الإمارات، وبحسب بعض الخبراء القانونيين أن القضية تحمل مزاعم لا أساس لها في الإطار القانوني، وأعلنت محكمة العدل الدولية عبر موقعها الإلكتروني، أنها ستصدر حكمها، اليوم الإثنين، في القضية التي رفعتها الحكومة العسكرية بالسودان ضد دولة الإمارات، وحددت المحكمة، موعد الجلسة، في تمام الـ3 عصرا بالتوقيت الأوروبي.
المحكمة: لا نملك صلاحية اتخاذ تدابير تأديبية ضد الإمارات..
وبحلول عصر اليوم أعلنت محكمة العدل الدولية، اليوم الإثنين، رفض الدعوى التي تقدم بها السودان، ضد الإمارات، والتي ادعت أنها “انتهكت اتفاقية الإبادة الجماعية من خلال دعم القوات شبه العسكرية في منطقة دارفور”. وقالت المحكمة، التي تعد أعلى محكمة تابعة للأمم المتحدة، إنها لا تملك صلاحية اتخاذ تدابير تأديبية ضد الإمارات، كما طلب السودان، وصوّت قضاتها على إنهاء القضية، وكان السودان أقام في مارس الماضي دعوى قضائية ضد الإمارات أمام المحكمة بتهمة “تسليح قوات الدعم السريع”، وهو اتهام نفته الإمارات مرارًا وتكرارًا.
وفي المقابل، رفضت الإمارات اتهامات السودان، قائلة إنها “لا أساس لها من الصحة وذات دوافع سياسية”، وأنها “لا تدعم أي طرف” في الحرب الأهلية السودانية، وأنه لا يوجد دليل يدعم ادعاءات السودان، وفي بيانها للمحكمة، شككت الإمارات في اختصاص محكمة العدل الدولية في هذه المسألة، وفي وقت سابق، قالت “ريم كتيت” نائب مساعد الوزير للشؤون السياسية بوزارة الخارجية بالإمارات، لشبكة CNN: “مصلحتنا الوحيدة هي ضمان سلام دائم ينهي معاناة الشعب السوداني ويجلب الاستقرار إلى السودان والمنطقة بأسرها”.
الأمارات: الطلب إساءة صارخة لاستخدام مؤسسة دولية مرموقة، ويفتقر إلى أي أساس قانوني أو واقعي
وبالنسبة لحكومة السودان التي تعرف عند عامة السودانيين بحكومة (الأمر الواقع) والتي تتخذ من مدينة بورتسودان عاصمةً لها، تعتقد دعم دولة الإمارات لأحد طرفي النزاع والمشاركة في هجمات وقعت منتصف يونيو 2023 على مدينة الجنينة، عاصمة ولاية غرب دارفور، وذلك بعد شهرين من اندلاع الصراع في السودان في 15 – أبريل – 2023م. وتزعم حكومة بورتسودان، التي يديرها العسكريون وتفيد تقارير ومصادر مفتوحة عديدة بأن تنظيم الإخوان المسلمين الطامح في العودة إلى السلطة يقف خلفها، تعتقد أن الإمارات قدمت دعمًا لقوات الدعم السريع، التي تتهمها بارتكاب أعمال إبادة جماعية في غرب دارفور.
وفي جلسة محكمة العدل الدولية الأولى طالبت “ريم كتّيت” نائبة مساعد وزير الخارجية الإماراتي للشؤون السياسية، المحكمة، في كلمتها أمام الجلسة الافتتاحية التي عقدت في 10 – أبريل الماضي بمقر المحكمة في قصر السلام بمدينة لاهاي الهولندية، برفض الدعوى المقدمة وشطب القضية بالكامل من جدول أعمال المحكمة، ووصفت الطلب بأنه “إساءة صارخة لاستخدام مؤسسة دولية مرموقة”، مشيرةً إلى أنه يفتقر إلى أي أساس قانوني أو واقعي. كما وصفت ادعاءات حكومة بورتسودان بأنها “مضللة في أحسن الأحوال، ومحض تلفيق في أسوأها”.
خبير قانوني: تحفظ الإمارات على المادة التاسعة من اتفاقية منع الإبادة الجماعية عند انضمامها في عام 2005 يمنع المحكمة من إثبات اختصاصها في القضية..
وفي الضفة الأخرى أفاد بعض الخبراء القانونيون بإن قضية السودان قد تتعثر بسبب مسائل الاختصاص القضائي، وفي السياق قال مايكل بيكر، خبير القانون الدولي بكلية ترينيتي في دبلن، إن تحفظ الإمارات على المادة التاسعة من اتفاقية منع الإبادة الجماعية عند انضمامها في عام 2005 يمنع المحكمة من إثبات اختصاصها في القضية، متوقعًا أن تخلص المحكمة إلى شطب الدعوى لعدم الاختصاص في النظر بهذا النزاع، وكانت عند توقيعها اتفاقية الأمم المتحدة لمنع الإبادة الجماعية عام 2005، أدخلت الإمارات “تحفظا” عن بند رئيسي يُمكّن الدول من ملاحقة إحداها الأخرى أمام محكمة العدل الدولية في أي نزاعات تنشأ بينهما.
وفي مقال سابق له حول القضية، قال الخبير القانوني الدكتور نصرالدين عبد الباري، وزير العدل في الحكومة المدنية الانتقالية التي كان يترأسها الدكتور عبد الله حمدوك، إنه، وفقًا لتحليل المعطيات في الدعوى المقدمة من الحكومة القائمة في بورتسودان، فإنها، إضافةً إلى الخطأ الإجرائي المتمثل في تحفظ دولة الإمارات على المادة التاسعة، ضعيفة وتفتقر إلى الأدلة المادية والمرتكزات القانونية اللازمة لاستمرارها.
إستندت الدعوى، التي رفعتها سلطات الأمر الواقع السودانية، إلى اتهام الإمارات بتقديم دعم مادي ومعنوي لحملة إبادة جماعية تزعم السلطات أن قوات الدعم السريع نفذتها ضد شعب المساليت. وتشمل الاتهامات تزويد القوات بالأسلحة والذخائر والطائرات المسيّرة وتحويلات مالية عبر وسطاء، وذلك رغم ظهور تقارير موثوقة توثق ارتكاب فظائع، وفقاً لزعم هذه السلطات. وتدعي سلطات الأمر الواقع السودانية أن هذا الدعم يشكل خرقاً لالتزامات الإمارات بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية، لا سيما التزامها بعدم المساعدة أو التواطؤ في ارتكاب جريمة الإبادة، ولتعزيز موقفها، قدمت حكومة بورتسودان طائفة من الأدلة، وطلبت إصدار تدابير مؤقتة، تحث المحكمة على مطالبة الإمارات بوقف كل أشكال الدعم المزعوم لقوات الدعم السريع، وحماية المدنيين – خاصة المساليت – والحفاظ على الأدلة المتعلقة بالجرائم المزعومة.
خبير قانوني: تكشف القضية عن محاولة ساخرة بامتياز من قبل القوات المسلحة السودانية لتلميع صورتها..
وبالنسبة للدكتور نصر الدين عبدالباري فأن هذه القضية تمثل سابقة بارزة في اللجوء إلى الآليات القانونية الدولية، إلا أنها مليئة بالتناقضات القانونية والسياسية والأخلاقية. فالإضافة إلى العوائق المتعلقة بالاختصاص، والتي يصعب تجاوزها، تكشف هذه القضية عن محاولة ساخرة بامتياز من قبل القوات المسلحة السودانية لتلميع صورتها من خلال التظاهر بأنها تدافع عن حقوق الإنسان. وإن المؤسسة ذاتها هي التي أشرفت على سبعة عقود من القتل الجماعي والتطهير العرقي والإبادة الجماعية والإرهاب الذي ترعاه الدولة، تسعى اليوم إلى إعادة تقديم نفسها كحامية للقانون الدولي – وهو تحول فج ومغرض سياسياً.
وقبل أيام، ألقى خبراء الأمم المتحدة، الضوء بوضوح على الممارسات الوحشية التي تمارس بحق المدنيين، من غارات جوية عشوائية، وهجمات متعمدة، وجرائم عنف جنسي مرتبطة بالنزاع، إلى جانب استخدام المساعدات الإنسانية كسلاح للضغط والتجويع، في انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني، وسلط التقرير الضوء على افتقار مزاعم القوات المسلحة السودانية إلى أي دليل مادي أو استنتاج موضوعي يدعم رواياتها بشأن دور الإمارات في النزاع السوداني، وأظهر التقرير أن هذه الادعاءات لم تكن سوى جزء من حملات إعلامية مغرضة، هدفت إلى “شيطنة” دولة الإمارات والتشويش على الجهود الإنسانية والدبلوماسية التي تبذلها الدولة لدعم الشعب السوداني.
وأكد عدد من الخبراء القانونيين إن العقبة القانونية الأساسية التي تواجه الدعوى السودانية ضد الامارات كانت تتمثل في اختصاص محكمة العدل الدولية – أو بالأحرى غياب هذا الاختصاص. إذ تمنح المادة التاسعة من اتفاقية الإبادة الجماعية المحكمة اختصاصاً بالنظر في النزاعات المتعلقة بتفسير الاتفاقية أو تطبيقها أو تنفيذها، لكن هذه المادة خاضعة للتحفظات، وعند انضمامها إلى الاتفاقية، أبدت الإمارات تحفظاً يستثني اختصاص المحكمة بموجب المادة التاسعة. وهذا التحفظ حاسم. فقد أقرت المحكمة مراراً وتكراراً بصحة مثل هذه التحفظات واعتبرتها ملزمة، كما في قضايا مثل شرعية استخدام القوة (يوغوسلافيا ضد إسبانيا وآخرين) والكونغو الديمقراطية ضد رواندا.
عبدالباري: العدالة الحقيقية لشعوب السودان المضيعة لن تتحقق من خلال محاكمات انتقائية أو اتهامات انتقائية لأغراض سياسية
ويؤكد عبدالباري فشل حكومة بورتسودان في تقديم أساس قانوني مقنع لتجاوزه. فلا يوجد اتفاق خاص بين الطرفين، ولا توجد مادة في اتفاقية أخرى تمنح المحكمة الاختصاص، ولم يُستند إلى أي أساس قانوني بديل. وهذا الغياب في حد ذاته دلالة على أن القضية لم تُصمم لتحقيق نصر قضائي، بل لتحقيق مكاسب سياسية، ورجح أن ترفض المحكمة الدعوى لعدم الاختصاص، ربما في مرحلة التدابير المؤقتة. وإذا حدث ذلك، فستنتهي القضية بحذفها من قائمة المحكمة العامة، ما يكشف عن طابعها الاستعراضي أكثر من كونها محاولة قانونية جادة.
وكان الخبير القانوني الدكتور نصر الدين عبدالباري توقع أن لا تتجاوز القضية عقبة الاختصاص بنجاح، ناهيك عن أن تحقق حكماً لصالح سلطات الأمر الواقع السودانية، كما أنها ستفشل في تحقيق هدفها الأساسي: خلق رواية عن الضحايا، والتستر على فظائع القوات المسلحة، وصرف الأنظار عن الحاجة الملحة إلى المحاسبة الشاملة لجميع أطراف النزاع السوداني، وقال عبدالباري إن العدالة الحقيقية لشعوب السودان المضيمة لن تتحقق من خلال محاكمات انتقائية أو اتهامات انتقائية لأغراض سياسية. بل ستتحقق فقط من خلال عملية شاملة، جامعة، وذات مصداقية لمواجهة الماضي – عملية تُحاسب فيها كل الأطراف على جرائمها، بصرف النظر عن رتبهم، أو انتماءاتهم، أو الملاءمة الدبلوماسية.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.