شهدت الأيام الماضية تصاعدًا ملحوظًا في المواجهات غرب كردفان، تحديدًا حول مدينة الخُوي، حيث اندلعت معارك شرسة بين قوات الدعم السريع من جهة، وتحالف غير معلن على الأرض يضم كتائب الإسلاميين، جيش البرهان الى جانب فصائل من الحركات المسلحة، وعلى رأسها قوات حركة تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي.
ما يلفت النظر في هذا التصعيد، هو التدخل المكثف وغير المعتاد لهذه الحركات المسلحة في جبهة بعيدة عن مناطق نفوذها التقليدية في دارفور، وهو ما يمكن تفسيره من منظور عسكري بحت كسعي لاختراق جغرافي استراتيجي من شأنه المساهمة في فك الحصار عن مدينة الفاشر، التي باتت تحت ضغط كبير من قوات الدعم السريع.
لكن الدافع العسكري لا يكفي وحده لفهم هذا التحول، بل يجب النظر إلى البنية العميقة التي تحكم سلوك الجماعات المسلحة في السودان، في ضوء ما يسميه بعض الباحثين بـاقتصاد التمرد والقبلية العسكرية، وهما مفهومان يفسّران كيف يتقاطع العنف المنظم مع منطق الزبائنية السياسية والإثنية.
ففي السياق الإفريقي، كما يشير أحد الباحثين فإن القادة العسكريين أو زعماء الحركات المسلحة غالبا ما ينخرطون في عمليات مساومة سياسية تحت غطاء القتال. يظهر الزعيم بمظهر الحازم عبر إرسال أتباعه إلى جبهات الموت، في رسالة للسلطة بأنه شريك لا يمكن تجاهله. وإذا نجح، تُعرض عليه تسوية عبر ما يُعرف بـسلام الرواتب (payroll peace)، حيث يُدمَج المقاتلون الحقيقيون منهم والوهميون في أجهزة الدولة ويتقاضون رواتب وامتيازات، فيما يحصل الزعيم على ترقية أو موقع سياسي.
في هذا السياق، تصبح الإثنية أداة لإدارة الولاء وتقليل مخاطر التمرد الداخلي. فالقائد الذي لا يملك ما يكفي من المال يكافئ أتباعه بالمحاباة القبلية، ويوظف أبناء عشيرته لضمان السيطرة. ومع شح الموارد، يُحتال على الجنود عبر الخصم من مستحقاتهم، بينما تتحول الحركة المسلحة إلى ما يشبه “شركة عائلية مسلحة” يديرها القائد عبر الزبائنية. وفيديو مني تحت شجرة المانجو يؤكد هذا الأمر.
انطلاقًا من هذا التحليل البنيوي، يمكن فهم سلوك بعض الحركات المسلحة في السودان، وعلى رأسها حركة مني أركو، التي باتت تعتمد بشكل متزايد على بنية إثنية مغلقة، وتوظف تحالفاتها الظرفية حتى مع خصوم الأمس كالإسلاميين لضمان استمرار الامتيازات التي تحصل عليها، سواء عبر التفاوض أو عبر السيطرة العسكرية المؤقتة.
التحالف بين الإسلاميين والحركات المسلحة لا ينبع من تقارب أيديولوجي أو مشروع سياسي مشترك، بل من منطق الاسترزاق المتبادل: الإسلاميون يحتاجون أدوات ميدانية لمواجهة الدعم السريع، والحركات تسعى لفتح قنوات دعم وخيارات جديدة تعزز بقاءها وتُحسّن موقعها التفاوضي، خاصة في ظل الحصار المضروب على الفاشر.
لكن هذا النوع من التحالفات لا يحمل في جوهره أي أفق وطني. بل يعكس الأزمة البنيوية التي تعاني منها النخب المسلحة في السودان غياب المشروع الوطني الجامع، وتحول أدوات المقاومة إلى وسائط لتحقيق مكاسب سلطوية داخل بنية الدولة الضعيفة أو المتهاوية.
إن معركة الخُوى، إذن، ليست مجرد معركة تكتيكية على رقعة جغرافية، بل هي تجلٍّ لصراع أعمق حول “من يملك أدوات العنف”، في سودان ما بعد الدولة. كما أنها تكشف عن هشاشة التحالفات التي تقوم على منطق القرابة والامتيازات، لا على ميثاق وطني مقاوم لقوى الهيمنة والانقسام.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.