طالعتُ في الأسافير صدفةً مقالًا للبروفيسور خالد كودي، الرجل الحساس الشفيف الذي نكن له كل الاحترام لجهوده النضالية الطويلة من أجل بناء وطن يسع الجميع. المقال بعنوان: “الفصل بين الدين والدولة ليس خيارًا إداريًا بل التزام تأسيسي”، وكان ردًا على مقال كتبته، نُشر في الأسافير الإعلامية، بعنوان: “هل محاربة الظواهر السلبية طعن في حكومة التأسيس؟”.
من هنا، أستميح البروفيسور خالد كودي والقراء عذرًا للرد على بعض الجزئيات التي أختلف فيها معه، بالرغم من أن مقال البروفيسور يحتوي على كثير من التحف المعرفية والقانونية القيمة التي أتفق معه فيها على أساس أنها مسائل علمية وتجارب إرث شعوب مرت بإشكالات واستطاعت معالجتها بما يتوافق مع ثقافاتها.
لقد ذكر البروفيسور خالد في رده: “إن أي تصرف صادر من سلطات إدارية أو قوى نظامية تشارك في حكومة التأسيس يخضع للمبادئ فوق الدستورية الموقّع عليها، ولا يجوز تبريره بمرجعيات دينية أو ثقافية أحادية”. بالرغم من أنه حتى الآن لا توجد قوانين تم تنزيلها من حكومة التأسيس للمستويات الدنيا، قد تكون هناك موجهات أو اجتهادات يصيب فيها الناس أو يخطئون في ظل إرث تاريخي من أنظمة مركزية متطرفة دينيًا ومتسلطة سياسيًا، خلقت انطباعات فكرية وقانونية لا يمكن علاجها بين يوم وليلة بأسلوب “كذا أو كذا” أو “يبقى يبقى”. وإذا لم يحدث ذلك، وإذا خرقت القانون، تُعتبر غير جاد. ليس هكذا تُعالج الأمور يا بروفيسور كودي! السودانيون بحاجة إلى التدرج والتثقيف لفهم قيمة العلمانية، وبالتالي، تدريجيًا سنصل، وليس على نهج الدكتور حمدوك. لذلك، نخطئ ونصحح وننتقد كما في السجال الحالي بيننا، لكن يجب أن نعطي مساحات للعلاج دون أن نقطع الحبل اشتراطًا، مع المحافظة على شعرة معاوية دون ابتزاز.
من هنا، إذا كانت هناك مجموعة عرقية تُعتبر شرب الخمر جزءًا من ثقافتها الأساسية، ومجموعة أخرى لا تُدرج الخمر ضمن ثقافتها وتُنبذه اجتماعيًا ولها أغانٍ تهجو شاربه، يبرز هنا السؤال: بغض النظر عن طريقة النقيب شيراز الدينية والعنيفة التي اكتسبتها نتيجة تدجين أفكار الناس دينيًا من المركز لعشرات السنين، في هذه الحالة، تكون المبادئ فوق الدستورية حامية لثقافة شارب الخمر ورافضة لثقافة من لا يشربه، بالرغم من أن الأمر والحدث وقعا في موقع وسياق ثقافي محدد يرفض شرب الخمر.
ورغم أن العلمانية والفيدرالية لها أساسيات ثابتة، إلا أنها في كثير من دول العالم تتضمن تباينات تُكيَّف قانونيًا لتتوافق مع احترام تقاليد وأعراف وثقافات الشعوب. على سبيل المثال، نظام الكانتونات الثقافية في سويسرا هو جزء من النظام الفيدرالي الأوسع، حيث تتمتع كل كانتون بحكم ذاتي واسع النطاق مع صلاحيات في مجالات التعليم والصحة والأمن والثقافة، ولكل كانتون دستور وبرلمان ومحاكم خاصة به تتيح له تحديد العديد من القواعد واللوائح التي تتناسب مع احتياجاته الثقافية واللغوية الخاصة.
هكذا، فتحت الفيدرالية السويسرية الباب للنقاش في الأمر، ومهما كانت الحجة، يظل الواقع الثقافي قائمًا ولا يمكن عزله أو فرضه على المجتمعات بشكل فوقي دون مشاركة ودراسة الأمر مع المجتمع المعني. وإلا، سيأتي يوم يتظاهر فيه الناس من أجل حقوقهم، فماذا نحن فاعلون؟
صحيح ما قاله البروفيسور كودي بأن هناك حقوقًا غير قابلة للانتهاك في الولايات المتحدة، كما أتفق معه حول الرؤية الهندية كإرث إنساني نستفيد منه ونأخذ ما يناسبنا ثقافيًا.
أعتقد أن البروفيسور كودي فتح نقاشًا عظيمًا، لأنه مهما حاولنا تجميل الأمر أو نقده، يظل أمر الفوارق الثقافية بين القبول والرفض حول الخمر قائمًا، ويحتاج إلى معالجات قانونية تحفظ الحقوق للجميع دون المساس بالكرامة الإنسانية أو التغريب أو التجريم والتشويه الثقافي. على سبيل المثال، نرى كيف عالج الغرب مسألة التدخين في الأماكن العامة وحوّلها إلى أماكن خاصة. نعم، هناك في السودان نموذجان لشرب الخمر:
الأول: مجموعات تشرب الخمر كثقافة وغذاء، وهو أمر جيد يتميز فيه الشخص بالسكينة والمرح والاحترام للقانون دون التعدي على حقوق الغير.
الثاني: أفراد من مجتمعات لا تشرب الخمر كثقافة، لكن بعضهم يشربون الخمر بهدف السُكر، وهنا مكمن الخطر. سيكولوجيًا، أي إنسان يشرب الخمر بهدف السُكر قد يكون لديه مآرب أخرى قد تؤدي إلى اختلالات أمنية تعتدي على حقوق الغير.
لذلك، ليس لدينا أي اعتراض على ممارسة أي مجموعة ثقافية لحقوقها الثقافية. فتاريخيًا، مجموعات البقارة، وقبل ظهور الإسلام السياسي في السودان وشريعته ونظامه العام، كانوا يكرهون الخمر ويحتقرون شاربها. لذلك، قال المؤرخ أغاتونس بالما في كتابه “قبائل شمال ووسط السودان”، الذي كتبه في الفترة من 1837-1838، وأثناء مكوثه مع البقارة ثلاثة أشهر في كردفان (الرهد أبو دكنة وشركيلا): “إن البقارة في ثقافتهم لا يشربون الخمر، بل يشربون اللبن ومشتقاته”.
من هنا، يجب ألا ننظر إلى العلمانية والفيدرالية والمبادئ فوق الدستورية كنصوص قانونية جامدة غير مطواعة، بل يجب إيجاد حلول وسودنتها ثقافيًا لمجتمع متنوع متعدد الثقافات كالسودان.
خالص الود للبروفيسور خالد كودي على النقد البناء والجيد، وللقراء على النقاش، لأنه فتح بابًا يجب القيام به من أجل التأسيس.
يا بروفيسور خالد، العلمانية والفيدرالية والمبادئ فوق الدستورية قوانين ممتازة تعالج جذور المشكلة في السودان.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.