“حـــــرب الكرامـــــة” هو الاسم الذي يتردد على الألسن في السودان، ولكن هل حقًا هذه الحرب، بكل ما تحمله من مآسٍ وجراح غائرة، تعكس كرامة السودان وشعبه الأبي الصامــــــد؟ أم أنها مجرد ستار خادع يخفي وراءه تآكلًا ممنهجًا للهوية الوطنية، وتفتيتًا قاسيًا لنسيجنا الاجتماعــــــي العريق؟ في ساحات الوغى، حيث الموت يرقص على أنغام الرصاص، تتكشف الفاجعة بأبشع صورها: المواطن البسيط هو الضحية الأولى والأخيرة، يواجه مصيرًا مجهولًا بين ويلات الاقتتال العشوائي الذي لا يرحم، ومخاطر الاعتقال التعسفي الذي يكمم الأفواه، ومرارة التهجير القسري الذي يقتلع الأرواح من جذورها.
الهوية الممزقة: من وحدة إلى شــــتات
لم تكتفِ هذه الحرب بتمزيق جغرافية السودان الشاسعة، بل امتدت يدها الآثمة لتفتت الروابط الإنسانية العميقة التي طالما جمعت السودانيين على مر العصور. لقد أصبح الاقتتال العشوائي سمة يومية مروعة، لا يفرق بين قرية آمنة وأخرى، ولا بين عرق أصيل وآخر. فكل طلقة تطلق، وكل روح بريئة تُزهق، تمثل جرحًا غائرًا لا يندمل في جسد الأمة المنهك. يضاف إلى ذلك، ظاهرة الاعتقالات العشوائية التي تطال الأبرياء بلا ذنب أو وجه حق، لتزرع بذور الخوف والارتياب وعدم الثقة بين أبناء الوطن الواحد. كيف يمكن للمواطن أن يشعر بالأمان والانتماء العميق عندما يصبح مجرد وجوده في المكان الخطأ تهمة تستدعي سلب حريته وكرامته؟ هذه الممارسات لا تساهم فقط في تشتيت الأفراد نفسيًا ومعنويًا، بل تعمل على تمزيق النسيج الاجتماعي بأكمله، وتحويل الجيران إلى غرباء متوجسين، والأشقاء إلى خصوم لدودين.
في خضم هذا الصراع العبثي، تتغذى الجهوية والقبلية على ضعف العقول المُزيَّفة تحت مسمى الكرامة، وعلى غياب الضمير والوطنية تحت شعار زائف للكرامة والسيادة الوطنية. فتنهض هذه التقسيمات كشياطين من رماد الحرب، وتتفاقم الآن لتصبح أدوات للفرقة والتحريض، وحواجز مصطنعة تفصل بين أبناء الوطن الواحد. يصبح الانتماء القبلي أو الجهوي معيارًا للتعامل، سواء كان ذلك في فرص النجاة من براثن الموت، أو حتى في توزيع المساعدات الإنسانية الشحيحة. هذه التجاوزات الصارخة تساهم بشكل مباشر في تآكل الهوية السودانية الجامعة، وتحل محلها هويات فرعية ضيقة، تهدد مستقبل الوحدة الوطنية في الصميم.
أي مواطن تتحدثون عنه؟ هل هو ذاك المواطن الذي قُتل بدم بارد في القيادة العامة إبان فض الاعتصام؟ أم هو المواطن الذي امتُصَّ دمه حتى جف؟ أم هو المواطن الذي دُمِّرت أسرته وممتلكاته وأمواله؟ أم هو ذاك المواطن الذي قُتل ابنه وبنته وأسرته أمام عينيه؟ أم إنها شيطنة للمواطن والوطن، لتبرير ما لا يُبرَّر من جرائم؟
تجار الكرامة وضحاياها: مرارة التناقض الصارخ
هنا يكمن التناقض الأكثر إيلامًا ويُدمي الفؤاد: بينما يتضور المساكين والفقراء والمحتاجون جوعًا وعطشًا، ويبيتون ليالي طويلة دون قوت، وتتكدس جموعهم في صفوف
“التكاريا” (الشـــــحاذين) بحثًا عن لقمة العـــــيش المريرة، نجد أن 70% من المسؤولــــين عن “حـــــرب الكــــــرامة” هذه يتمتع أبناؤهم وبناتهم وأسرهم بحياة رغيدة مترفة خارج السودان. يواصلون تعليمهم في أرقى الجامعات والمعاهد العليا العالمية، ويتعالجون في أفضل المستشفيات وأفخمها، بعيدًا عن لهيب المعارك وقسوة الواقع المرير الذي يرزح تحته شعبهم المنهك. في المقابل، يُرمى أبناء هؤلاء الفقراء والمغلوب على أمرهم في الصفوف الأمامية كوقود رخيص لهذه الحرب العبثية، بينما يقبع “أبناء المصارين البيض” (في إشارة لاذعة إلى أبناء الأثرياء والمسؤولين) في مناطق آمنة أو خارج البلاد، بمنأى عن الخطر والموت الزاحف.
ألا يحق لنا أن نتــــــساءل بصــــوت يمـــــلؤه الألــــم والاستنكار، وبصيحة مدوية في وجه الظلم: أي كــــــرامة تتـــــحدثــون عنها؟ كـــــرامة تُبنى على أشلاء الضعفاء والجوعى، وتُسقى بدماء الأبرياء، بينما ينعم القادة وأبناؤهم بالرفاهية والأمان الزائف؟ هذه الفجوة الهائلة بين من يُلقى بهم في أتون المعارك ومن يستفيد من ورائها، هي التي تفتت ما تبقى من ثقة في القيادة، وتعمق جراح الانقسام الاجتماعي إلى درجة لا يمكن إصلاحها.
لقد تحولــــــت هذه الحرب إلى مصدر دخل غير مشروع لبعض الأشخاص النافذين، الذين أصبحوا من الأثرياء الجدد على حساب معاناة المواطن المنهك. بينما يعاني الناس من ويلات المرض المستشري، وارتفاع الإيجارات الفلكي الذي ينهك كاهلهم، وارتفاع أسعار السلع الضرورية بشكل جنوني لا يطاق، يستمر تجار الأزمات في جني الأرباح الطائلة دون حسيب أو رقيب. هذا يدفعنا للتساؤل الحارق، الذي يجب أن يتردد صداه في كل أذن: هل هي حقًا “حـــــــرب كـــــرامــــة” أم “حرب تمكين” لأجندات سياسية واقتصادية لبعض الأحزاب والجهات المتنفذة، حتى لو كان ذلك على حساب حياة المواطنين وكرامتهم ومستقبل بلادهم؟
خائـــــــــن مـــــن؟ الوطـــــــــن أولًا!
التجارب السابقة خير دليل لا يقبل الشك أو المماطلة: حرب دارفور التي استمرت لأكثر من 15 عامًا، وقضية الجنوب، جميعها أثبتت أن الحل الوحيد هو التفاوض العاجل والمُجدي. ومع ذلك، نجد من يريد استمرار هذه الحرب اللعينة، ومن يصف كل من يدعو إلى السلام الحق بــــــــــ”العمــــــيل” و”الخائـــــن”.
لكن، من هو الخائن الحقيقي يا سادة؟ هل هو من يدعو لوقف نزيف الدم وحقن دماء الأبرياء، أم من باع المواطن والوطن بثمن بخس في سوق النخاسة السياسية؟
الخــــائــــن من يتاجر باسم “حرب الكرامة” بينما أبناؤه وبناته خارج الوطن ينعمون بالراحة قبل الحرب بشهور معدودة.
الخـــــائــــن من سلب حق الوطن والمواطن، وباع الهوية الوطنية وجواز السفر السوداني بثمن بخس في سوق النخاسة السياسية.
الخــــــائـــن من يملك الفلل والقصور السكنية والاستثمارات الضخمة خارج الوطن، بينما يبيت أبناء الوطن الشرفاء على الرصيف يتضورون جوعًا ومرضًا.
الخــــــائـــــن من باع الخطوط الجوية السودانية والسكك الحديد، وباع العقيدة الإسلامية كشعار زائف لتحقيق مصالح شخصية ودنيوية بحتة.
كم من أسرة فقدت ابنها وبنتها، وتشردت بلا مأوى، وكم من طفل تيتم؟ فمن العيب والمخزي على الدولة أن تقف صامتة أمام هذا الدمار، أو أن تساوم على حياة أبنائها من أجل مكاسب واهية.
نحو كـــــرامـــــة جامعة: الأمـــــل الأخير
في ظل هذه التحديات الجسيمة والآلام المبرحة، يواجه مستقبل الوحدة الوطنية السودانية أسئلة وجودية مصيرية. كيف يمكن لبلد مزقته الصراعات الداخلية وتجار الكـــــرامــــة أن يلتئم من جديد؟ إن مسؤولية المجتمع المدني والمثقفين تتجاوز مجرد توثيق الأحداث، لتصل إلى بناء الجسور المنهارة بين المكونات الاجتماعية المتناحرة. عبر الحوار البناء، والتوعية المستمرة، وتجسير الهوة بين الفئات المختلفة، يمكنهم أن يكونوا صوت العقل والضمير الحي، وأن يعملوا بدأب على تعزيز قيم التسامح والتعايش السلمي والوحدة الحقيقية.
إن إعادة بناء النسيج الاجتماعي السوداني لن تكون مهمة سهلة، بل هي معركة وجودية ضرورية وملحة. يجب أن نبدأ بتصحيح مفهوم “الكرامة” نفسه، وأن نجعله يشمل كرامة كل مواطن سوداني بلا استثناء، لا كرامة السلطة أو النفوذ أو الثراء الفاحش. عندها فقط، يمكن للسودان أن يستعيد عافيته، ويستلهم من تاريخه العريق قوة للعودة والنهوض، بعيدًا عن براثن الجهوية والقبلية المقيتة، نحو مستقبل يوحد الجميع تحت مظلة هوية سودانية أصيلة، كرامتها تتجلى في رخاء كل أبنائها لا في معاناتهم.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.