في ظل غليان المشهد السوداني وتصاعد وتيرة الصراع، تواجه جهود رئيس الوزراء المكلف، الدكتور كامل إدريس، لتشكيل حكومة انتقالية في بورتسودان، تحديات كبرى تنذر بتعميق الانقسامات وتأخير مسار الاستقرار المنشود بحسب أنصار الجيش. تكمن لبّ الأزمة في خلافات حادة ومكشوفة مع الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق “جوبا للسلام” أو ما يعرف بالقوات المشتركة، وباتت حقيبة كوزارة المالية بؤرة اشتعال صراع النفوذ بين التطلعات السياسية لهذه القوى وواقع الأعباء الأمنية التي يفرضها النزاع المسلح.
وطبقًا لما خرج من تفاعلات معسكر الجيش وحلفائه، لم تكن المؤشرات الأولية مبشرة، فواقعة الانسحاب المفاجئ لمني أركو مناوي، حاكم إقليم دارفور والمشرف العام على القوة المشتركة، من أول اجتماع تشاوري عُقد يوم أمس مع أطراف اتفاق جوبا قبل وصول رئيس الوزراء، قد مثّلت شرارة كشفت عن حجم التناقض بين القتال من أجل المبدأ والقتال في سبيل السلطة والمناصب.
تصاعد التوتر وبشكل فوري حدث عندما رفعت حركة تحرير السودان صوتها عبر وزيرها السابق محمد بشير أبونمو، إلى جانب مسؤول حركة العدل والمساواة “معتصم أحمد صالح”..
ونقلت تقارير إعلامية أنه عند افتتاح الاجتماع، حرص الدكتور كامل إدريس على التأكيد أن الغاية من اللقاء تقتصر على توزيع حصص اتفاق جوبا، وهو التزام أساسي تنص عليه بنود الاتفاقية. غير أن رئيس الوزراء سرعان ما اصطدم بحائط صلب من المفاوضات المباشرة التي تجاوزت الإطار المحدد، لتركز على الاستحواذ على حقائب وزارية بعينها.
وحسب ما أبرزته التقارير، فإن تصاعد التوتر وبشكل فوري حدث عندما رفعت حركة تحرير السودان صوتها عبر وزيرها السابق محمد بشير أبونمو، إلى جانب مسؤول حركة العدل والمساواة “معتصم أحمد صالح”، متمسكين بقوة بمنحهم الوزارات التي كانوا يتولونها منذ إنشاء الحكومة بعد اتفاق عام 2020. وقد وُصفت ردّات فعلهم بأنها “قوية”، إذ شددوا على أن أي قرار بحل الحكومة دون مشاورات مدروسة هو “باطل غير ملزم”، ما يعكس تمسكًا عنيدًا بمكتسباتهم السابقة.
عمق الصراع وتهديد التصعيد الميداني
تُعد حقيبة وزارة المالية المحور الجوهري لهذا الصراع، حيث ترى فيها الحركات المسلحة، لا سيما تلك المنضوية تحت اتفاق جوبا، ضمانة لنفوذها السياسي واستقلاليتها المالية، فضلًا عن كونها موردًا حيويًا لتمويل قواتها ومتطلبات قواعدها. على النقيض، يرفض قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان والمؤسسة العسكرية بشدة التخلي عن هذه الحقيبة السيادية، معتبرين الاحتفاظ بالسيطرة المالية على الدولة أمرًا حيويًا لتعزيز القدرة الحربية، خاصة في ظل الأوضاع الأمنية والاقتصادية البالغة التعقيد التي تمر بها البلاد.
بيان تحذيري لما يعرف بـ”أبناء الولاية الشمالية”، الذي قال إنهم يمتلكون أدلة على انسحاب قوات الحركات المسلحة من مناطق حيوية في جبهة القتال..
وقد تجلى هذا التوتر بشكل خطير، خصوصًا بعد البيان التحذيري لما يعرف بـ”أبناء الولاية الشمالية”، الذي قال إنهم يمتلكون أدلة على انسحاب قوات الحركات المسلحة من مناطق حيوية في جبهة القتال، مثل المثلث وكرب التوم.
الانسحاب المُعلن تم ربطه لاحقًا بمطالب الحركات بخصوص الحقائب الوزارية باعتبارها الأولوية. هذه الخطوة، التي مثّلت رسالة واضحة، أكدت أن بقاء هذه القوات في الميدان بات مرتبطًا بقضايا السلطة والنفوذ، لا بالضرورات الميدانية وحدها.
ابتزاز سياسي من العيار الثقيل
في تعميق لفهم طبيعة الخلاف، كشفت الإعلامية المقربة من الجيش رشان أوشي، في تسريبات تم تداولها على نطاق واسع، أن الحركات المسلحة ــ ولا سيما فصائل دارفور ومجموعات شرق السودان ــ تتبنى “سياسة ابتزاز سياسي” واضحة. تمثلت هذه السياسة في رفض القتال إلى جانب الجيش بجدية دون الحصول على ضمانات سياسية مسبقة، وفرض حصص وزارية كشرط للانضمام الكامل إلى الجبهة القتالية. هذه المعلومات، التي نُسبت إلى أوشي، تزيد من تعقيدات المشهد وتُشير إلى استغلال الأوضاع الراهنة لتحقيق مكاسب سياسية ذاتية.
التهديدات لم تتوقف عند هذا الحد، ففي تصعيد وصف بالنوعي، ألمح مالك عقار، نائب البرهان عضو مجلس السيادة، إلى أن الحركات المسلحة قد تتجه إلى “تقرير المصير حال تم إلغاء اتفاق جوبا أو إسقاط الحكومة”. هذا التصريح، الذي يعكس حجم الضغوط التي تمارسها الحركات، يلوّح بخيارات قد تزيد من تشظي المشهد السوداني.
كما أدلى محمد الجاكومي، أحد ممثلي التيارات الموقعة على اتفاق جوبا، بانتقاد مباشر حول أن تعيين شخص واحد على وزارة طوال خمس سنوات “لم يحدث من قبل في تاريخ السودان”، في إشارة واضحة لوزير المالية الحالي جبريل إبراهيم. كما أن صلاح الولي من حركة تجمع قوى تحرير السودان، أوضح أن اتفاق جوبا منح نسبًا للحصص، ولم يحدد الوزارات بالاسم، وأن المفوضية السلمية هي المسؤولة عن التوزيع العادل بين الفصائل.. كل ذلك يشير إلى تباين في الرؤى حتى داخل معسكر الحركات نفسه.
تعيين كامل إدريس رئيس للوزراء منذ انقلاب 25 أكتوبر 2021، اعتبره مراقبون سعيًا من المؤسسة العسكرية لكسب شرعية سياسية وشكلية أمام المجتمع الدولي
صلاحيات محدودة وأزمة شرعية
تعيين كامل إدريس في 19 مايو بمرسوم من قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان، والذي جعله أول رئيس وزراء منذ انقلاب 25 أكتوبر 2021، اعتبره مراقبون سعيًا من المؤسسة العسكرية لكسب شرعية سياسية وشكلية أمام المجتمع الدولي، وأن صلاحياته محدودة للغاية، وأنه قد لا يكون أكثر من “واجهة مدنية” تُدار فعليًا من خلف الكواليس بواسطة المجلس السيادي والقادة العسكريين، ما يُضعف موقفه التفاوضي أمام الأطراف المتنافسة.
وفي هذا السياق، أكد مني أركو مناوي في تصريحاته أن “الكرة الآن في ملعبهم”، في إشارة إلى قيادة الجيش، ودافع عن سعي الحركات للحفاظ على الشراكة قائلًا: “مناقشة قضايا السلطة وتوزيعها كما نصت عليه الاتفاقيات هو من صميم العمل السياسي الذي خرجنا لأجله ودفعنا فيه ثمنًا باهظًا… هذا ليس أمرًا مخجلاً”. وأضاف: “نحن في مرحلة حسم الشراكة، إذ أنه بلا شراكة يعني لا قيمة للحديث عن تقاسم سلطة”.
وقد أشار الناطق الرسمي لحركة / جيش تحرير السودان بقيادة مناوي إلى أن “الدائرة السوداء داخل مؤسسات الدولة السودانية بدأت تتوهم ظنًا منها أنها استعادت العافية… وبدأت تدق الأسفين”، في إشارة إلى جهات داخل الدولة تسعى لتقويض الحركات. كما اشتكى مناوي بحدة من “حكاية تسريب اجتماعات وتوجيه الأقلام والألسنة المقززة بعد تزوير المحاضر وإخراجها من المضامين بغرض اغتيال البعض”، مؤكدًا أن “هذا الأسلوب يدفعنا إلى أن نتناول في الإعلام ما لا يمكن تناوله”، وهو ما يعكس عمق الخلافات وانعدام الثقة المتزايد داخل معسكر بورتسودان.
من جانبها، لم تغب انتقادات حركة العدل والمساواة، بقيادة جبريل إبراهيم، عن المشهد، حيث نددت بدورها بما وصفتها بمحاولات “تشويه متعمد” لاتفاق جوبا، ورفضت توصيفه بأنه “محاصصة إثنية”، مؤكدة أنه “جاء بإرادة وطنية خالصة… ونال اعترافًا دوليًا واسعًا”. وأوضح الأمين السياسي للحركة، معتصم أحمد صالح، أن التمسك ببنود الاتفاق “ليس ابتزازًا سياسيًا، بل هو جزء من استحقاق مشروع يعزز مبادئ الإنصاف والمساواة”، محذرًا بشدة من دعوات العودة للحرب التي تمثل “تهديدًا مباشرًا لتماسك الدولة”.
ضغط إضافي ومعادلة معقدة
من جانبه، يرى المحلل السياسي عمر سفيان سالم في حديثه لـ”راينو” أن خلافات معسكر بورتسودان يمكن لها أن تُحل أو أن تهدأ بالرشوة السياسية. وأضاف: “لكن حقيقة الأمر أن التحدي الأصعب، وما يزيد الضغط على كامل إدريس، هو حال شكّلت قوات الدعم السريع ومجموعة من الفصائل المتحالفة معها ما وصفوه بـ”حكومة السلام والوحدة الوطنية” في مسعى واضح لنزع شرعية سلطة الأمر الواقع في بورتسودان”.
ويرى سفيان أن ما يزيد من الانقسامات داخل معسكر بورتسودان نفسه، مطالبة تيارات إسلامية باستعادة نفوذها تحت غطاء “المدنية” أو “التكنوقراط”، إضافة إلى تحركات بعض النخب من شرق السودان المطالبة بمكافآت سياسية لاستضافة الحكومة. وتابع: “هذا التشظي يزيد من صعوبة بناء توافق واسع، ويدخل عملية التشكيل في متاهة من التجاذبات المناطقية والعقائدية”.
مراقبون: السيناريو الأول، يتمثل في تثبيت حكومة الأمر الواقع بغطاء مدني، يتم عبر اتجاه المعسكر بقيادة الجيش إلى تثبيت حكومة انتقالية مدنية شكلًا، بقيادة كامل إدريس، مع الاحتفاظ بصلاحيات حقيقية في يد البرهان ومجلسه السيادي
استراتيجية “الجيش والإسلاميين” للسيطرة الشاملة
تحليليًا، كثيرون يرون أن معسكر الجيش والإسلاميين وحلفاءهم من الحركات المسلحة والقوات المشتركة يتجه نحو واحد من ثلاثة مسارات محتملة، يجمع بينها هدف مركزي واحد، وهو: الاحتفاظ بالسلطة والسيطرة الكاملة على مفاصل الدولة، ولو عبر شراكات مؤقتة أو أدوات مدنية كواجهة.
ويرى المحلل السياسي إيهاب الحسن في حديثه لـ”راينو” أن السيناريو الأول، المتمثل في تثبيت حكومة الأمر الواقع بغطاء مدني، يتم عبر اتجاه المعسكر بقيادة الجيش إلى تثبيت حكومة انتقالية مدنية شكلًا، بقيادة كامل إدريس، مع الاحتفاظ بصلاحيات حقيقية في يد البرهان ومجلسه السيادي. وأضاف: “تكمن الفكرة في تقديم واجهة مدنية تكسب الاعتراف الدولي وتمنح غطاءً لمواصلة إدارة الحرب، دون التخلي عن مفاتيح السلطة والمال، بعبارة أخرى، هي “مدنية مُدارة لا مستقلة”، والمراد منها استيعاب ما يمكن استيعابه من الحركات المسلحة دون منحهم مفاتيح القرار أو التمويل”.
ويذهب إلى أن السيناريو الثاني يتمثل في تقليص نفوذ الحركات المسلحة عبر تكتيك “الاحتواء لا الشراكة”، وقال: “الواضح من سلوك قيادة الجيش، خصوصًا ما رشح عن رفض منح وزارة المالية لأي من الحركات المسلحة، أنه لا توجد نية للدخول في شراكة حقيقية، وأن ما يحدث هو احتواء هذه الحركات بهدف سحب شرعيتها السياسية وتحييدها عسكريًا”. وتابع: “الرسالة الضمنية الموجهة لهذه الأطراف هي: قاتلوا معنا، وسترون نصيبكم لاحقًا… لكن القرار والسيادة ليسا لكم”. هذا يفسر أيضًا التسريبات عن رفض الجيش التفاوض مع الحركات بجدية حول الحقائب السيادية، بما فيها الدفاع والمالية والطاقة.
محلل: ثمة سيناريو ثالث لا يجب أن يغيب في سياق تحليل مآلات معسكر الجيش وحلفائه ــ أو بالأحرى معسكر الحرب ــ ويتمثل في صناعة حلف سياسي بديل من قوى شرق السودان والإسلاميين القدامى.
فيما يرى المحلل السياسي عمر سفيان أن ثمة سيناريو ثالث لا يجب أن يغيب في سياق تحليل مآلات معسكر الجيش وحلفائه ــ أو بالأحرى معسكر الحرب ــ ويتمثل في صناعة حلف سياسي بديل من قوى شرق السودان والإسلاميين القدامى. وأضاف: “مع تمرد بعض الفصائل المسلحة، تتجه المؤسسة العسكرية إلى بناء حلف جديد يضم نخب الشرق كملاذ سياسي جديد لحكومة الأمر الواقع، وبعض قيادات الإدارات الأهلية، وإعادة دمج عناصر من النظام السابق تحت لافتة “التكنوقراط” أو “المستقلين”. وتابع: “هذا الحلف يوفر سندًا اجتماعيًا وسياسيًا يُستخدم ضد أي بدائل معارضة محتملة، وخاصة “حكومة السلام والوحدة”، ويحفظ للجيش هامش المناورة إقليميًا ودوليًا”.
ويستبعد سفيان أي محاولة من الحركات حال تعرضت للخذلان من قبل الجيش والاسلاميين، للتجرؤ والانضمام للدعم السريع في حربه كحلفاء جدد، وقال: هذا السيناريو لا يمكن حدوثه لعدة اسباب اولها أن الدعم السريع لا يثق بتاتا في هذه الحركات، كما أنه لا يحتاجهم إذ أنه يعلم تماما أن انسحاباتهم ما هي إلا ذريعة من مواجهته خصوصا وأن معظم هذه الحركات ما تزال تتذكر ما حدث في قوز دنقو، ولا تريد أن تفقد ما تستر به عورة ضعفها وتمسحها تحت أرجل الجيش.
عموماً، لا يبدو أن معسكر الحرب ــ كما يرى البعض ــ يمكن له أن يعبر من خلال العاصفة التي تعتمل في سماء بورتسودان، مهما كانت محاولات التمكين الهادئ للسلطة العسكرية عبر أدوات مدنية انتقائية، أو تحجيم الحركات المسلحة ومنعها من التحول إلى مراكز نفوذ مالي وسياسي، أو السعي لتقويض حكومة السلام والوحدة عبر استباقها بشرعية دولية لحكومة بورتسودان، عبر إبقاء كامل إدريس في وضع محكوم لا حاكم، مع هامش محدود لإدارة التوازنات، لصالح العودة إلى ما يشبه “شراكة شكلية” بيد الجيش، تحت غطاء حرب وجودية، وتحالفات براغماتية تكتيكية، في محاولة لفرض الأمر الواقع وتثبيت السيطرة في ظل حالة الحرب الطاحنة، بغض النظر عن تداعياتها على وحدة واستقرار البلاد.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.