في تقاليد العمل الاستخباراتي، لا شيء يُربك العدو أكثر من عودة الهدف الذي أُعلن موته رسميًا. فحين تنهار رواية بُنيت حولها مواقف عسكرية وسياسية أمام صورة واحدة، فإن ما ينهار هو الشرعية ذاتها.
ثلاث سنوات روّجت فيها الدولة المركزية السودانية، بأذرعها الإعلامية والأمنية، سردية محكمة عن مقتل قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو “حميدتي”. كانت الغاية إغلاق صفحة خصمها الأقوى، وإحداث شلل نفسي داخل بنية قواته، وقفل الطريق أمام عودته السياسية والعسكرية.
لكن في 22 يونيو 2025، ظهر “الهدف المحذوف” وسط آلاف الجنود في عرض عسكري منظم. لم تكن صورته تسجيلاً مهتزًا، بل بثًا مباشرًا في مشهد استعراضي محسوب، أعاد ترتيب المشهد السياسي، ووجّه ضربة مباشرة للرواية المركزية.
في علم النفس الاستخباراتي، تُعرف هذه اللحظة بـ”الارتداد الرمزي”؛ حيث لا يعود الشخص فقط، بل ينهض في قلب السردية التي افترضت موته، ووسط الذين قيل إنهم تشتتوا وتفككوا. لم يعد حميدتي قائد مليشيا، بل مركز ثقل بديل، يمتلك الأرض والتنظيم والحاضنة والخطاب.
وبينما كان يظهر في غرب السودان، كان شريكه في “تحالف تأسيس”، القائد القوى عبد العزيز الحلو، يُسقط مواقع الجيش في جبال النوبة / جنوب كردفان واحدة تلو الأخرى. خلال أسبوع، انهارت الخطوط الأمامية، وقُتل قائد قوات مليشيات بورسودان في الجبهة – برتبة لواء – في صمت رسمي مريب. المعركة كانت على الأرض والرمزية معًا، و”تأسيس” يتقدّم بثقة في الاتجاهين.
في الغرب، حميدتي يحشد قواته ويعيد تعريف القيادة.
في الجنوب الأوسط ، الحلو يلقّن الجيش هزائم متتالية.
و حركات دارفور داخل بورسودان باتت اقرب إلى تأسيس من حكومة المركز تتمرد على الدولة و تنسحب من مواقع أخرى لقوات تأسيس يذكرنا ( خروج مناوي الأول بعد أبوجا ) .
في الشرق، حلفاء بورتسودان يتهاوون تحت ضغط داخلي وخارجي؛ إيران غارقة في أزماتها، ومصر تتخبط تحت عبء ديون تتجاوز 30 مليار دولار، بينما الوضع الليبي في مثلث عوينات يتحرك في اتجاهات لا تُطمئن المركز.
الدولة القديمة لم تعد مركزًا يتحكم في الأطراف، بل جهة في معادلة جديدة. تحالف “تأسيس” لا يسعى للاعتراف، بل يفرض وقائعه على الأرض دون ضجيج. لم يعد يحتاج إلى موافقة الخرطوم أو جامعة عربية منهكة؛ إنه يبني سلطة بالحشد، بالسرد، وبالنفَس الطويل.
منذ 1956، هيمن تحالف قبلي ضيق من نخبة قبلية (الجعليون، الشايقية، الدناقلة) على الدولة. لكن القوى الجديدة لا تأتي من الهامش فقط، بل من قلب الانهيار البنيوي للمركز. ما نشهده اليوم ليس تمردًا، بل ظهور بديل متكامل للسلطة.
في السياسة الدولية، لطالما كانت الثنائية القطبية ضمانة للعدالة. وكما أن انهيار المعسكر الشرقي خلّف نظامًا عالميًا جائرًا، فإن السودان أحادي القطب لم يكن أكثر عدلاً: قوة تحتكر، وهامش يُقمع. اليوم، السودان يدخل مرحلة توازن قوى حقيقي، بقوتين واضحتين: إحداهما في العاصمة، والأخرى تبني مشروع دولة كاملة خارجها.
الذين راهنوا على تفكك الدعم السريع، اصطدموا بجدار الواقع: السنوات الثلاث كانت فترة إعادة التموضع. إعادة ترتيب، تحالف، تثبيت سيطرة. “تأسيس”، الذي أُعلن في نيروبي، لم يكن بيانًا، بل تدشين مرحلة جديدة.
الصورة الأخيرة كانت أوضح من أي خطاب. حميدتي لم يعد بحاجة لتفنيد الشائعة؛ لقد دفنها بصمته، وظهر بقوة جعلت من الدعاية القديمة غير قابلة للتكرار. الفوز في الحرب لا يُقاس بعدد الطلقات، بل بقدرتك على كسر تصوّر العدو عن نفسه. وهذا ما فعله هذا الظهور.
منذ تلك اللحظة، تراجعت بورسودان إلى موقع الدفاع. لم تعد تصنع المبادرة، بل تلاحقها. خصمها لم يمت، بل عاد أقوى، وأذكى، وأكثر تنظيمًا، وبديلًا لا يُمكن تجاوزه.
السؤال الآن ليس: من يحكم الخرطوم؟
بل: من يملك مشروع الدولة القادمة؟
من يعيد تعريف السودان؟
والإجابة، بعد اجتماع قاعة جومو كينياتا في فبراير ٢٠٢٥ … لم يعد السودان الدولة التي كان قبلها.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.