الحاضنة الاجتماعية للدولة:- بنية السلطة في سياق ما بعد الكولونيالية

المودودي الدود _ نائب رئيس تيار الوحدة الوطنية

في المجتمعات الحديثة، يمكن التمييز بوضوح بين الطبقات الاجتماعية بناءً على موقع الأفراد في علاقات الإنتاج أو وفقًا لحجم رأس المال الذي يمتلكونه. فعلى سبيل المثال، في الولايات المتحدة، تسيطر نخبة تمثل نحو 1٪ من السكان على قرابة 90٪ من الثروة القومية، وهو تمايز طبقي يمكن تحليله من خلال أدوات الاقتصاد السياسي.

أما في السياقات ما بعد الكولونيالية، خاصة في دول مثل السودان، فإن مفهوم الطبقة يصبح أقل وضوحًا بسبب سيادة العلاقات ما قبل الحداثية، كالعصبيات القبلية والروابط الجهوية، وتغليب الولاء الشخصي على الولاء المؤسسي. ورغم تبنّي الدولة لهياكل حديثة كالدستور والبرلمان والجهاز الإداري، إلا أن السلطة تُمارس فعليًا عبر شبكة نفوذ غير رسمية تشكل ما يمكن تسميته بـالحاضنة الاجتماعية لدولة 1956

هذه الحاضنة ليست طبقة اجتماعية حديثة بالمعنى الماركسي أو الليبرالي، بل هي تحالف مرن من العائلات، والقبائل، والضباط، والتجار، والزعامات التقليدية، تَشكَّل نتيجة تاريخية مباشرة لعلاقة خاصة مع المستعمر البريطاني. فالسودان، على عكس كثير من دول الجوار، لم يدخل الاستعمار إليه من جهة الغرب أو الجنوب، بل من جهة شمال ووسط السودان، وتحديدًا عبر تحالفات محلية مع بعض المجموعات التي دعمت الاحتلال البريطاني-المصري، ووقفت ضد الثورة المهدية، بل وساهمت في دعوته لاحتلال السودان بعد انهيار الدولة المهدية.

هذا الموقع الجغرافي والسياسي لتلك القبائل والمجموعات، بالإضافة إلى علاقاتها الممتدة مع الحكم التركي والبريطاني، منحها موقعًا متميزًا في مؤسسات الدولة الحديثة: التعليم، الخدمة المدنية، الجيش، الجهاز القضائي. وبالتالي، أصبحت هذه المجموعات هي الوريث الحقيقي للدولة بعد الاستقلال، وشكلت النواة الصلبة للحاضنة الاجتماعية للسلطة.

ما حدث بعد 1956 لم يكن بناءً لدولة وطنية شاملة، بل إعادة تدوير لسلطة مركزية جديدة بأدوات استعمارية قديمة. هذه الحاضنة استطاعت أن تحتكر، وفق تصنيف بيير بورديو، أربعة أنواع من الرأسمال:
رأس المال الاقتصادي: الأراضي، العقارات، الاستثمارات الكبرى.
رأس المال السياسي: المناصب العليا ومفاصل القرار السيادي.
رأس المال الثقافي: السيطرة على فرص التعليم العالي، العلاقات الأكاديمية.
رأس المال الرمزي: الشرعية الدينية، الزعامات التقليدية، الانتماء التاريخي للمركز.

لكن بخلاف النماذج الحديثة، لا تُكتسب هذه الرأسمالات عبر مؤسسات مستقلة أو سوق مفتوح، بل تُعاد إنتاجها وتدويرها عبر علاقات قرابة ونسب وولاء، ضمن شبكة مغلقة من المصالح.

وهنا، لا تمثل الانتخابات أو الانقلابات أو حتى الانتفاضات الشعبية آليات حقيقية لتداول السلطة، بل مجرد وسائل لإعادة توزيع الواجهة السياسية داخل نفس الحقل الاجتماعي المسيطر، دون المساس ببنية السلطة نفسها.

ولذلك، حين نصف بعض قبائل أو فئات شمال السودان بأنها مجموعات مسيطرة تاريخيًا على الدولة، وأنها استفادت من امتيازات السلطة على مدى عقود، وأنها غالبًا ما وقفت ضد مشاريع التحول السياسي الجذري، فإننا لا نقول ذلك من باب التعميم الجهوي، بل استنادًا إلى بنية تاريخية محددة تشكلت منذ لحظة التأسيس الكولونيالي، وأسّست لنظام لامساواة تاريخي مستمر حتى اليوم. هذه الحاضنة، بحكم موقعها، ظلت تمثل الضلع الصلب في الحروب العنصرية، والممانعة لأي تحول بنيوي حقيقي في طبيعة الدولة.

ولو أن الاحتلال دخل السودان من جهة الغرب، لربما كنا نتحدث اليوم عن قبائل غرب السودان باعتبارها الحاضنة الاجتماعية للدولة. لكن الجغرافيا السياسية لتدخل الاستعمار، وتفاعل الفئات المحلية معه، حدد منذ البداية من يملك ومن يُقصى، ومن يرث الدولة ومن يُهمَّش منها.

 

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.