زمن الأعيصر!

🖊 علي أحمد

 

لم أكن أعلم قبل الأمس معنى مفردة أعيصر، التي وجدتها تعني في اللغة زمن الشدّة والاضطراب، وتشير إلى العصور التي فسدت فيها أحوال الحكم، وضاعت فيها البصائر، وساد فيها العبث والخلل. وبلادنا، للأسف، تعيش هذه الفترة أزهى عصور التفاهة والهبل، بكل ما فيها من ملامح الانحدار: حيث تفشّت العلل، وارتبكت العقول، وارتفع صخب الجهالة، وتقدّم التافهون إلى الصدارة. وفي ظل هذا المشهد المختل، لا ريب أن يُصبح الجهلول الأكبر؛ “خالد الأعيسر”- الذي ينتحل صفة وزير إعلام في سلطة البرهان الفاقدة للرشد والشرعية- اسمًا على مسمّى، والرجل المناسب في الزمان والمكان المناسبين.

ومن عجائب هذا الزمان، التي يعجز العقل عن تفسيرها، أن يُعيَّن مثل خالد الأعيصر وزيرًا، وهو الذي لا يكاد يصلح حتى مشجّعًا في مدرجات السياسة؛ فهو كثيرُ الضجيج، قليلُ الفهم. ولو كان للضوضاء وحدها وزن في الحكم، لأصبح كل بائع في السوق وزيرًا، وكل صاخب قائدًا. إنه لا يملك من المؤهلات إلا حنجرة صاخبة، تفرز جلبة لا تُثمر ولا تُغني، ولهذا، ولأنه يدرك تمامًا خواءه الفكري وافتقاره إلى الكفاءة، يعيش في توجّس دائم، يجهد لإثبات ولائه لمن فوقه، رغم أن من فوقه هو الآخر غارق في إثبات ذاته أمام من يحرّكونه، داخليًا وخارجيًا!

وفي ظل هذا العبث المتفاقم، خرج علينا هذا الأعيصر، مطالبًا جمهورية الصين الشعبية بالتدخّل العاجل لتعطيل التقنيات المستخدمة في تشغيل الطائرات المسيّرة التي استهدفت بورتسودان، مستجديًا عونها على سبيل الإذلال لا الدبلوماسية.

ولم يكتفِ بهذا التوسل البائس، بل عمد إلى نشر تصريحه المخزي على الموقع الرسمي لوكالة السودان للأنباء (سونا)، قبل أن يُسارع إلى حذفه إثر موجة سخرية عارمة اجتاحت وسائل التواصل الاجتماعي، أضحكت الثكالى والسكارى على جهله المريع، وكشفت عن مدى التردّي الذي بلغته هذه السلطة الهزيلة، التي طأطأت رؤوس السودانيين بين الأمم.

لقد بدا الرجل، من خلال تصريحه هذا، مكشوفًا، مفضوحًا، وعاريًا من أي حنكة أو دراية؛ إذ اعترف، من حيث لا يدري، بعجز سلطة الأمر الواقع، وجيشها وميليشياتها، عن التصدي للمسيّرات التي تنفّذ ضرباتها في العمق دون رادع أو رد!

لكن الطامة الكبرى ليست في هذا الإقرار وحده، بل فيما كشفه من جهلٍ فادح بكيفية مخاطبة الدول، وبطبيعة أسواق السلاح وآلياته، وتقنيات تشغيل المسيّرات. فهل تملك الدول المصنّعة حقّ التحكم في الطائرات المسيّرة بعد بيعها لطرف ثالث؟ وبأي منطق سياسي أو عسكري تُخاطَب الدولة المصنّعة وكأنها تحتفظ بزرّ سحري يوقفها عن بُعد متى شاءت؟!

والسؤال الأجدر بالطرح: لماذا لا تُوجَّه الرسائل والمساءلات إلى البرهان نفسه؟ أليس من الأولى أن يُسأل عن مصير ميزانية الدفاع، التي ظلّت تلتهم أكثر من ثلثي موازنة الدولة، في حين يعجز جيشه عن التصدي لمسيّرة لا يتجاوز ثمنها بضعة آلاف من الدولارات؟!

إن هذا الأعيصر ليس سوى أنموذج ناطق وناصع للخواء السياسي والفكري والعلمي الذي تنوء به هذه السلطة القروسطية المتحصّنة في بورتسودان. وهو تجسيد حيّ للفوضى التي طالت كل شيء: القرار، والخطاب، والرؤية، والشعور بالمسؤولية، وبالوطنية أيضًا.

إنها سلطة تافهة تمارس الجهل النشط.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.