يقول القائد العسكري ورجل الدولة الفرنسي “تشارل ديغول” في كتاباته إبان المأزق الجزائري “لم نكن هنا أمام وضع يقتضي حلاً ودياً إنما كنا أمام مأساة كاملة”.
هكذا كان لِزاماً علينا أن نصف وضع الجيش السوداني الذي خاض حرباً لم يكن مستعداً لها، فمنذ اندلاع الحرب في الخامس عشر من أبريل ٢٠٢٣ تعرض الجيش السوداني لهزة كبيرة أدت إلى تدمير القوة الصلبة من خريجي الكلية الحربية، كما أدت إلى فقدان الجيش للعتاد العسكري بعد انسحابه أو هزيمته وسقوط حامياته في السنة الأولى من عمر الحرب.
وبسبب الهجوم على مدينة بورتسودان بالمسيرات واستهداف مقار الجيش في الرابع من مايو ٢٠٢٥ لم يحظى خطاب الفريق أول شمس الدين كباشي نائب القائد العام للقوات المسلحة السودانية بالقراءة والتحليل الكافي، لأن خطاب كباشي جاء في الثالث من مايو ٢٠٢٥ أي قبل يوم من الهجوم على مدينة بورتسودان.
أذكر أن الخطاب تحدث عن نقاط كثيرة أهمها: أن العنوان الخاص بالقوات المسلحة هو المقاومة الشعبية وأن أي عنوان آخر لا يلزم القوات المسلحة في شيء، الأمر الذي أثار حفيظة قائد كتائب البراء بن مالك التي تنتمي للتيار الإسلامي، مما حداه للرد بقسوة على حديث نائب القائد العام للقوات المسلحة في محاولة للتكشير عن أنياب هذه الكتائب.
وبالعودة إلى خطاب الفريق كباشي مع ولاة الولايات فإننا نجده قال “إن قوات الدعم السريع هي أداة وهو ذات نفسه ربما يكون لايعلم بما يقوم به، وذكر أنهم ماضون في تحقيق الانتصار الكامل” إنتهى.
ونفس هذا الحديث ذكره الفريق كباشي في خطابه في ولاية القضارف بشرق السودان أثناء احتفالات تخريج الدفعة ٣٧ “بلاك تايقر” من حركة جيش تحرير السودان بقيادة “مناوي” في العام ٢٠٢٤م.
ففي ذلك اليوم ذكر الفريق أول كباشي نفس هذا الحديث عن قوات الدعم السريع وقال نصاً “أن الدعم السريع هو أداة، هو ما بيعرف بيسوي في شنو، زي الشاكوش ده، بتدُق بي كده ده، هو ما عارف ذاتو إنو هو بدق، ويا ريت كان بدق، كان قالو ليكم ده شاكوش بدق كلو كضب “.
وأكد أن العنوان الكبير لهذه المعركة هو القوات المسلحة ولا عنوان آخر غيرها، ومضى الزمن وتطاول أمد الحرب التي وعد الفريق أول كباشي بحسمها دون جدوى وتكاثرت العناوين الفرعية وتناسلت الميليشيات حتى أصبحت هي التي تقرر في أمر الوطن والمواطن بل وتدير المعارك وتهدد القوات المسلحة بأنهم أرجل رجال السودان “أي الميليشيات”، وليت الفريق أول كباشي علم الغيب بأن شاكوش الدعم السريع طرق أبواب الشرق الآمن، الذي لا يعرف أهله الحرب ولا ذنب لهم فيها غير أن العاصمة أتت إليهم، ويا ليتها لم تأتهم.
إن ما يحدث الآن في مدينة بورتسودان هو المصائب النموذجية بعينها كما كتب عنها القائد العسكري تشارل ديغول في مذكراته عندما تحدث عن فرنسا قائلاً ” طوال حياتي كانت لدي فكرة معينة عن فرنسا، مثل أميرة القصص الخيالية أو مادونا في اللوحات الجدارية، محكوم عليها بمصير بارز واستثنائي، أشعر غريزياً أن العناية الإلهية خلقتها لتحقيق نجاحات كاملة أو مصائب نموذجية”.
فنحن في زمن المصائب النموذجية التي خلقتها قيادة القوات المسلحة الحالية، فهل سيكون شمس الدين كباشي بمثابة فقيه إصلاحي في زمن الفوضى والتبعية ويعيد للجيش انضباطه؟
ولا يخفى على أحد في الداخل والخارج أن القيادة الحالية للجيش جعلته يعاني من العزلة الدولية بسبب خضوعه للحاضنة السياسية التي أشعلت الحرب وهي مكونة من نظام الإخوان المسلمين (نظام حزب المؤتمر الوطني المحلول) بأمر ثورة ديسمبر المجيدة.
وتتلخص نقاط ضعف الجيش في التالي:
ـ الجيش فاقد للشرعية الدولية بسبب الحاضنة السياسية التي تقود الحرب وقادت الانقلاب العسكري على حكومة الثورة في أكتوبر ٢٠٢١.
ـ الجيش يعيش ضغوط داخلية وضغوط شعبية، خاصة بعد عدم قدرته على تحقيق النصر الكامل، وحماية مدينة بورتسودان التي قيل إنها محصنة من أي هجمات وأن نار الحرب لن تطالها.
ـ الهجوم بالمسيرات الاستراتيجية شل حركة الجيش بعد استهدافها للطائرات واستهدافها لمخازن الوقود.
ـ نقص ذخيرة الجيش بسبب تدمير مخازن الأسلحة.
في ظل هذه الأزمات وبسبب انتقال أحداث الحرب إلى مدينة بورتسودان الواقعة في شاطئ البحر الأحمر ذات الأهمية الاستراتيجية اقليمياً ودولياً.
ومازال الجيش السوداني يعاني من نفس الأزمة النوعية في القيادة العليا منذ بداية الحرب و المتمثلة في غياب الرؤية الموحدة داخل الجيش وتعدد مراكز القرار فيه فضلاً عما يواجهه قائد الجيش عبد الفتاح البرهان من انتقادات متكررة، بعدم مقدرته على توحيد الجبهة الداخلية التي زادت هجمات المسيرات من تفككها، الأمر الذي جعل الجميع يتساءل عن نجاعة تبني الحل العسكري لإنهاء الحرب في السودان.
ويبدو أن الحل التفاوضي أيضاً يحتاج إلى شخصية قيادية تفرض هذا الخيار، وتُقدم مصلحة القوات المسلحة على أي مصلحة أخرى، فالشعب السوداني لا يريد من القوات المسلحة مزيد من القتل والنزوح بل يريد منها أن تتخذ قراراً صائباً في لحظة مفصلية قبل أن يدركه الغرق فحينها لن يجدي الإيمان بالسلام الذي لطالما آمن به هذا الشعب وتجاهلته قيادة الجيش الحالية.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.