السودان: رصاص، جوع، وحلمٌ يبحث عن وطن
في قلب الخرطوم المكلومة، وعلى ضفاف النيل الذي يروي حكايات النزوح والوجع، يصحو السودان كل صباح على أنينٍ لا يتوقف. رصاصٌ يدوي، بيوتٌ تُهدم، أرواحٌ تُزهق، وأجسادٌ أنهكها الجوع والمرض. هل يملك رئيس الوزراء الجديد مفتاح الخلاص، أم يظل هذا الوطن الجريح أسيرًا لعقدة الماضي؟
السودان، هذا العملاق المثخن بالجراح، ليس مجرد خريطة سياسية، بل هو نزيفٌ متواصل على أرضٍ كانت يومًا سلة غذاء العالم. منذ ما يزيد عن العام، تحوّلت المدن إلى ساحات حرب، والمنازل إلى أطلال، وحياة الملايين إلى كابوسٍ مفتوح. القتل، التهجير القسري، الاعتقالات التعسفية، والاقتتال الذي لا يفرق بين طفل وشيخ، كلها مشاهد باتت جزءًا من النسيج اليومي. الأمراض الفتاكة، كالكوليرا، تتفشى في صمت مميت، بينما البطون الخاوية تئنّ تحت وطأة الفقر المدقع، وتنتشر “التكايا” (مواقد الطعام المتواضعة) كشواهد على جوعٍ يهدد بفتك الأجيال. هذا هو واقع السودان اليوم، داخل حدوده وخارجه، حيث يعيش ملايين اللاجئين والنازحين على فتات الأمل، يتشبثون بذكرى وطنٍ لم يعد يشبه نفسه.
في خضم هذه الكارثة الإنسانية، يبرز اسم رئيس وزراء جديد، لتعليق آمال معلقة على خيط رفيع. السؤال الذي يطرحه الشارع السوداني، الذي بات يثق بصعوبة بعد خيبات متتالية، هو: هل سينجح هذا الرجل في إيقاف نزيف الحرب، وتحقيق طموحات الناس وآمالهم، أم أن توجّسهم من التعيين الجديد في محله؟ الشارع بات لا يثق بسهولة، فكل تغيير في القمة لم يتبعه تغيير حقيقي في القاعدة، بل زاد من تعقيد “عقدة السودان” التي تظل في مهبّ الريح.
حكومة تحت المجهر: استقلالية القرار ومستقبل الوطن
المعضلة الكبرى التي تواجه أي حكومة مدنية قادمة تكمن في مدى استقلالية قرارها. هل سيُمنح رئيس الوزراء الصلاحيات المطلقة في اختيار فريقه الوزاري دون تأثير من أي جهة، سواء كانت عسكرية أو سياسية؟ أم أن هذا الاختيار سيظل مقيدًا بضغوطات تفرغ التعيين من محتواه؟””” التجارب السابقة”””أثبتت أن أي حكومة مدنية لا تملك زمام أمرها في تشكيل فريقها لن تكون قادرة على معالجة المشاكل الجوهرية. وهل يشفع لبعض الوزراء البقاء في الحكومة إذا كانت قيود التعيين تحد من صلاحياتهم؟ هذا هو بيت القصيد في بناء حكومة قادرة على التغيير.
وفي ظل غياب الأجهزة الحقيقية في إدارة الحكومة المدنية، يبرز تحدٍ آخر: تكوين مجلس تشريعي مستقل وفاعل. فبدون هذا المجلس، الذي يضع التشريعات والقوانين ويراقب الأداء التنفيذي، ستظل الحكومة بلا رقيب، وسيبقى الفساد متفشيًا، ولن يتحقق مبدأ المساءلة. إن الفصل الواضح بين الأجهزة التشريعية والتنفيذية والقضائية، كلٌ على حدة، ليس مجرد مبدأ دستوري، بل هو حجر الزاوية في بناء دولة حديثة وناهضة، تضمن سيادة القانون وحقوق المواطن.
خفايا الماضي: هل يستفيق السودان؟
لكن، هل هذه هي “عقدة السودان” والمعضلة الأساسية؟ أم أن الخبايا والخلايا الخفية لـالنظام السابق والأحزاب السياسية المتناحرة هي السبب الرئيسي وراء هذه الحرب التي أهلكت الحرث والنسل؟ كثيرون يرون أن هذه الجهات، التي تستفيد من الفوضى، هي من تغذي الصراع وتحول دون قيام دولة مدنية حقيقية، خشية أن تفقد نفوذها ومكاسبها. فهل يستفيق السودان من هذه الغيبوبة العميقة، أم يظل في غرفة الإنعاش، تنتظره جولة أخرى من الصراع والدمار؟
إن المرحلة القادمة ليست مجرد تشكيل حكومة، بل هي محكٌ وجودي. يجب أن تكرس لخدمة المواطن البسيط والمغلوب على أمره. أن تتحول السياسات من مجرد بيانات إلى طعامٍ على الطاولة، وماءٍ في البيت، ومدرسةٍ بلا رسوم، ومستشفى قادر على العلاج، وأمنٍ يحفظ الأرواح. هذا هو جوهر المهمة، وهذا هو المقياس الوحيد لنجاح أي حكومة قادمة.
السودان يقف اليوم على مفترق طرق. إما أن ينهض من تحت الرماد، ويعيد بناء ذاته على أسس العدل والمؤسسات والقانون، أو أن يغرق في أتون صراعاتٍ لن تبقي ولن تذر. الكرة في ملعب رئيس الوزراء الجديد وفريقه، والأمل معقود على أن يختاروا مسار الوطن، لا مسار المصالح الضيقة.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.