حرب أبريل: صعود لامتناهي لأجندة التغيير…نقوش مبعثرة على دفتر الصراع.

الصادق سالم

على خطى ثورات التغيير والنهوض العظمى، تمضي جحافل التحرير في السودان، بصبرٍ وثبات نحو غاياتها المرجوة، تلك الغايات التي يراها الأعداء وبعض المشفقين، بعيدة المنال، وغير منطقية، لأنهم لم يفهموا أنه في الثورة كما السياسة، لا تشكل الأمور غير المنطقية عقبة. لم يكن يوماً الصراع في السودان حالة عشوائية أو منبتة، بل كان دائماً ظاهرة يمكن تفسيرها، والتأثير عليها سلباً أو إيجاباً، عندما قرر قادة الجيش وحلفائهم، إشعال الحرب في ١٥ أبريل، لم يخطر ببالهم، بأن قوات التحرير هي من يقرر نهايتها، وفقاً لفهمها ورؤيتها، لما ينبغي أن يكون عليه سودان المستقبل.

لقد حاولوا وسعهم هزيمة تلك الغايات، بحشرها قسراً، في نطاق الجغرافيا والقبيلة، غير أنهم أظهروا بذلك عجزاً مريعاً وقاتلاً، في فهمهم لديناميات الصراع، والقدرة على رصد وقياس نطاق تطوره وحركته. فبعد عامين من الحرب، والثبات الملحمي لقوات الدعم السريع، في وجه الدولة القديمة وآلتها الحربية الغادرة، لم تكن النقطة التي نقف عليها الآن، هي ذات النقطة في صباح ١٥ أبريل، تدفقت مياه كثيرة تحت جسر المواقف، وعُطب الخطاب السياسي، لمعسكر القوى القديمة وممارساتهم، وأصبحت قوى سياسية واجتماعية ذات وزن تأثير، ضمن نطاق الصراع وفاعله فيه.

قال لي جاري ظابط الأمن الشاب، مساء ١٤ أبريل، قبل ساعات من اشتعال الحريق، إن قامت الحرب، فأن الجيش سيسحق الدعم السريع في لحظات، وقد عدَّد بزهو الأسباب التي تدعم فرضيته، سألته، هل هذا ما تم إخباركم به عند طواف القادة، أم هو محض تحليل؟! قال لي هذه الحقيقة، لدى ما يكفي من المعلومات. قلت له هذا لن يحدث، وإن انفجرت الحرب، سترى الحقيقة بأم عينك، لا من تنوير القادة أو التقارير والمطويات ذات الطابع السري للغاية.

لقد تطوع ظابط الأمن المسكين، بذلك الحديث، ليس لأنه فقط يتمنى سحق عناصر الدعم السريع في لحظات، بل لأنه مثل قادته، لم يفهم بعد، بأن عُطباً مركزياً، قد أصاب النظام الاجتماعي والسياسي، القائم في السودان، وأن مثل هذه الحروب عند اندلاعها، سترتفع معها أجندة التغيير إلى سقف غير متناهي، مثلما يحدث الآن. مرت الساعات واندلعت الحرب، ولم يخرج جاري من منزله في يومها الأول، ثم هرب في اليوم التالي تاركاً خلفه عربته الحكومية، وقد علمت لاحقاً، أنه ترك الجندية، وأخفى هويته، وتولى الإشراف على حفاره الكتر بلر، الذي ازعجنا بصيناته الدورية أمام المنزل، وطاب به المقام في مناطق الذهب بأبو حمد.

منذ انسحاب الكتائب والأورطات السودانية، رفقة الجيش التركي المصري المنهزم، بعد تحرير الخرطوم، بواسطة جيوش الانصار، بدأ العقل المصري بالتفكير، في ضرورة إنشاء قوات سودانية، يوكل لها مهام إخضاع السودانيين وإخماد صحواتهم، ثم بدأ العمل الجاد في هذا المسار، بتدريب تلك القوات المنسحبة وتجهيزها، حتى دخلت السودان رفقة الغزو الانجليزي المصري، حذو النعل بالنعل والقُذّة بالقُذّة، ومن تلك القوات الخنيثة، وُلد الجيش السوداني، الذي واصل في أداء ذات المهام الموكلة إليه، وبذات التشوهات، إلى يومنا هذا.

انشغلت الدولة القديمة، واشتغل جيشها طوال سبعون عاماً، على مقابح لا تحصى، ولكن أكثرها قبحاً وتأثيراً على المشهد، هو استغلال الشعوب السودانية وابعادها بصورة منهجية، وتوظيفهم كأدوات للقمع واسكات الآخر، ولم تعدم الحيلة دائماً، في ايجاد مرتزق مخلص، من صلب القوى المهملة والمبعدة، يخوض الحروب ويقتل ويحرق نيابةً عنها، من أجل كسب الاعتراف، الذي نصبت نفسها كمانح وحيد وحصري له، لكنها وبعد كل هذه القذارة، لم تفعل شيء، سوى خلق وعي موازي، ومراكمة الغبن وتجنيبه، لحين لحظة الانفجار الكبرى، التي نعيش فصولها الملحمية الآن.

لم تكن لتتوفر لقادة الجيش الجرأة، في الذهاب تجاه خيار الحرب، التي خططوا لها بأن تكون خاطفة وحاسمة، لولا حصولهم على ضمانات، مكنتهم من استقطاب مرتزقة جُدد، يحملون عنهم عبء خياراتهم الصفرية، وها هم في آخر محطاتهم بؤساً، يستقرون على ما كان يُعرف بحركات وجيوش التحرير، للقيام بدور الحارس الأمين لامتيازهم، مقابل الفتات من الأموال والسلطة الصورية، فقد اثبتت التجربة العملية أن هذه الحركات، أبعد ما تكون عن قضايا شعوبها، التي أدعت يوماً ما، الثورة من أجلهم.

في جوبا، كان دائماً هناك صوت رصين خافت، لرجل وقور عركته الحياة والتجارب، يقول، أنتم تبذلون جهداً في غير محله، وتعملون بغير وعي، على جلب معاول الهدم للمسار الديمقراطي، الذي نبت على حوافر ثورة ديسمبر، فهؤلاء الناس غير مبالين وغير مؤتمنين على قضايا الانتقال، ولا على حقوق ضحايا الحروب، وعنف الدولة الانتقائي، لكن الإجابة كانت حاضرة دوماً “إفعل الشيء الأخلاقي والصحيح وأترك الباقي للمستقبل”.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.