بعد نجاح ثورة ديسمبر انطلقت أصوات لقيادات سياسية تنادي بالحوار مع الإسلاميين نسبة لكونهم فصيلاً مؤثراً في العمل السياسي، وقالت بعضها إنه إذا كنا نريد للبلاد الاستقرار فلا مناص من شملهم عند الانتقال نحو الديمقراطية. وفي الآونة الأخيرة بدرت دعوات لإشراك الإسلاميين في فرص الحل السوداني – السوداني لأزمة الحرب، وذلك بوصف أن المؤتمر الوطني يمسك بخيوط اللعبه الحربية، وأنه مهما حاولنا الوصول إلى تسوية فإنه لا بد أن يكون شريكاً فيها حتى تتجسد في الواقع.
الحقيقة هي أن القوى السياسية لم ترفض الحوار، أو التعاون، مع الحركة الإسلامية عبر تاريخ حضورها في المشهد السياسي منذ الخمسينات. وفي العقود الأخيرة تحالف الإخوان مع حزبي الأمة، والاتحادي، للإطاحة بالنميري في حادثة غزو الخرطوم في يوليو 1976. ولاحقاً توافق حزب الأمة القومي مع الجبهة الإسلامية حول برنامج ما عرف بحكومة الوفاق الوطني، ولكن في خاتم المطاف انقلب الإسلاميون على الوضع، وجاءوا بانقلاب 1989. ولاحقاً اتفق الصادق المهدي مع الترابي على التسوية في جنيف، ولكن أيضاً تبخر الاتفاق، وبعده كان المزيد من العداء بين الطرفين، ثم خطا تحالف الإجماع الوطني خطوات مهمة في التحالف مع المؤتمر الشعبي بعد المفاصلة للإطاحة بنظام البشير. والأكثر من ذلك أن مفاوضات انعقدت لتحالف نداء السودان مع المؤتمر الوطني قبل سقوطه للتوصل إلى تسوية، ولا ننسى كذلك أن المؤتمر الشعبي نفسه خرج نادماً من “حوار الوثبة” الذي تحايل به إخوانهم في النظرية لكسب الزمن، وتجاوز ورطته بالغش السياسي الذي كمن وراء الفكرة.
ولا ننسى أن فترة اتفاق السلام الشامل قد شهدت انخراطاً شاملاً للقوى السياسية التي قبلت بما سمي التحول الديمقراطي استجابةً لتقديرات محددة آنذاك لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. ولو أن المؤتمر الوطني صدق في مسعاه لتوفر لنا انتقال حقيقي من الاستبداد إلى الديمقراطية. ولكن ما إن صوت الجنوبيون للانفصال إلا وتخلص الإسلاميون من التجربة فأغلقوا الصحف، ومنظمات المجتمع المدني، والمراكز الفكرية، وضيقوا على الأحزاب، وطاردوا النشطاء السياسين. كل هذه المحاولات الوطنية للتواصل مع الإسلاميين هدفت لتجاوز ما أفرزه انقلابهم من تدمير للبلاد على كل النواحي، غير أنه أبت ارادة السلطة وقتذاك إلا التلاعب بالتوافق الوطني.
إن المعضلة الأساسية التي تواجه التعامل مع معظم الإسلاميين هي أنهم يستخدمون الائتلاف السياسي كمرحلة تقية يعقبها الانقضاض على الحكم. وحتى إذا حصلوا عليه عاملوا المخالفين معهم بالقمع، والضرب، والتنكيل. فالصدق آخر شيء يمكن أن تتوقعه من كثير من متبني نظرية الإخوان التي تستخدم التقية السياسية، والكذب للاستئساد على الحكم. وباختصار علينا تذكر أن أمن الحركة الأسلامية قد أجلس زعيم حزب الأمة في كرسي من ثلاث قواعد عبر تحقيق مهين، وهو الذي تحالف معهم في المرة الأولى عند غزو الخرطوم، وفي المرة الثانية حين ائتلف معهم عبر حكومة الوفاق. ومع ذلك لم يفتر المهدي من الصبر عليهم، ولكنهم خدعوه في غير ما مرة. فإذا كان هذا سلوك جماعة مسلمة ضد من هو معروف بأنه يتقارب معهم فكرياً، واجتماعياً، برباط فكري، واجتماعي، فما بالك بالبقية من الشيوعيين، والبعثيبن، والعلمانيين، والملاحدة، وغيرهم ممن يتبنون رؤية مختلفة إزاء رؤية الإخوان المسلمين.
ما يميز الإخوان المنتمون للمؤتمر الوطني أنهم لا بعترفون بالخطوط الحمراء الدينية، والعرفية، في العلاقة السياسية مع الآخرين، ولذلك يظل مد خطوط التعاون معهم لصالح استقرار البلد ضرب من الحلم المجدد دون اعتبار للماضي. ومن ناحية أخرى فإن إخوان المؤتمر الوطني ما يزالون يستبطنون في داخلهم أن لا أحداً خلافهم يملك الحل للأزمات السياسية، ويرون أنهم وحدهم أقرب إلا الله، وأما الآخرين فإنهم إما لا يمتلكون برنامجاً سياسياً للبناء الوطني، أو أنهم لا يفقهون الدين على أصوله. وبتلك الرؤية قسم فكر الإسلاميين المجتمع في أي بلد إلى فسطاطين، واحد أقرب للإله، والآخر ضد مشيئته في الأرض.
في هذه الحرب وضع المؤتمر الوطني سلام، واستقرار السودان، مقابل الاستجابة إلى رغبتهم في الإبقاء على سدة الحكم. وحتى الآن تستعر المقاومة بين إستراتجية المؤتمر الوطني وبين غالب السودانيين الراغبين للتوصل إلى تسوية عبر التفاوض تحفظ كيان البلد، وتنقذ مواطنيه من المأساة العظيمة.
وعلينا أن نتذكر أن فكرة الحرب نفسها نوع من الابتزاز، واحتقار رغبة السودانيين في الانتقال نحو الديمقراطية. وبهذه الكيفية يريد معظم الإسلاميين أن تستجيب القوى السياسية لهم صاغرين من أجل استعطافهم لإيقاف الخراب. وهذه معادلة لا يخلقها إلا تنظيم راغب في وراثة كل البلد وحده بالحرب، والسلم، وتوظيف طاقته السلطوية في الجيش، والخدمة العامة، والقطاع الخاص، لاستهداف أي مشروع وطني ديمقراطي إصلاحي.
خلاصة الأمر: سيظل النضال بمختلف وسائله المشروعة هو الوسيلة الأنجع لهزيمة قوى الاستبداد لا التصالح معها، وما دون ذلك ستكون أي مساعٍ للتصالح مع المؤتمر الوطني لإيقاف الحرب هي بمثابة إعادة إنتاج للأزمة السودانية، لا غير. بل إن هذا التصالح يمثل خيانة لدماء الشهداء التي روت البلاد من أجل تحقيق شعار حرية، سلام، وعدالة.
Prev Post
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.