في عالمٍ تُطلِق فيه الطائرات المسيّرة على المدن، كما تُطلَق الإشاعات في المقاهي، خرج علينا خالد الإعيسر، وزير الثقافة ورجم الأصنام في حكومة القتلة، لا ببيانٍ يدين الجريمة، بل برجاء ساذج إلى الصين كي “تفعّل حقها القانوني” لتعطيل المُحَلِقات التي تقتلنا.
لم يكن الخطاب مجرد سوء تقدير، بل تجلٍ فادح لخلل في الإدراك.
رسالة مصاغة بلغة بيروقراطية غارقة في المذلة، كأن من كتبها يعتقد أن المسيرات مزوّدة بزر “رجوع”، وأن مهندسًا صينيًا يسمع الخطاب، فيبكي تأثرًا،ثم يهرع إلى إغلاق النظام بتعليمات لاسلكية، احترامًا لعلاقات “قاعة الصداقة” التي لم تسلم هي الأخرى من القصف!
ما يُعرف بشهادة المستخدم النهائي End-User Certificate هو بند قانوني تنظّمه اتفاقيات تصدير الأسلحة، يُلزم المستورد بعدم إعادة البيع لطرف ثالث دون إذن الدولة المُصنِّعة.
لكن الوثيقة لا تمنح الجهة المُصدّرة قدرة تقنية على التحكم عن بعد، إلا في حالات استثنائية، كطائرات F-35 الأميركية ايها الاعيسر.
أما المسيّرات الصينية ، فلا تملك بكين في أغلب الأحيان حتى القدرة على تتبّعها بعد أن تبيعها.
الوزير، الذي يبدو أنه يخلط بين
End-User Certificate
و
end of common sense،
ظنّ أن خطابًا دبلوماسيًا خجولًا، مصاغًا بعبارات ميتة، سيوقف السلاح.
وربما توهّم أن الدعم السريع سيعيد الطائرات إلى مرسلها احترامًا للوثيقة التي نسي القتلة توقيعها.
هذه ليست مسيرات يا ايها الاعيسر، بل سرديات مسعورة.
وليست شهادة استخدام، بل شهادة وفاة.
وهذا بالضبط ما أسماه أنطونيو غرامشي بـ”الجهل المنظّم”:
حين تتحول السلطة إلى ماكينة لإنتاج الوهم، لا للمعرفة، وتُصدّر السطحية كواقعية سياسية، والضعف كتعقُّل سيادي.
وليس هذا قصورًا عابرًا، بل جهل وظيفي مؤسسي لا يأتي من فراغ، بل من منظومة ترفع الفاقد التربوي وخريجي مدرسة الانتهازية إلى الوزارات، وتشتري لهم أوراقًا جامعية من أذربيجان، ليتجاوزوا بند المؤهل في قانون الخدمة المدنية.
لكن الأسوأ من الجهل، هو استثماره كوسيلة ناعمة لتبرير الانبطاح.
الإعيسر لا يطالب بإيقاف الحرب، بل بتحديث برمجيات القتل.
يتحدث عن “اختلال الاتفاقية”، وكأن ما يجري في السودان مجرّد خطأ إداري في معرض صناعي.
لا يُدين الجناة، بل يُعاتب المورّدين ويسدي لهم النصح.
لا يصرخ، لا يلعن، لا يحتج. بل يطلب بلطف آسيوي أن يُعاد ضبط الأجهزة، مراعاةً لذاكرة *قاعة الصداقة.
يبدو أن الرجل، وقد ضاق صدره بمشهد الموت من الجو، قرر أن يستدعي الصين كلها — بمبانيها، وشيّاتها، وأبراج شبكاتها — لتتدخل كما لو كانت ترد على بلاغ في تطبيق صيانة!
في لقطة تُشبه رقصة وداع في مسرحية عبثية، يصرخ الوزير باسم السيادة الوطنية… بينما الطائرة تُحلّق فوقه، تحمل وثيقة الاستخدام في يد، ونداءه الرسمي في اليد الأخرى، تضحك… ثم تُطلق النار.
الموقف لا يُثير الضحك بقدر ما يُثير الشفقة.
الإعيسر، الذي عُيّن على الأرجح بصفقة سياسية مع البرهان، بعد أن ضُبطت له شهادة جامعية في أذربيجان لتجاوز لوائح التوظيف، لا يملك من أدوات الفهم سوى لياقة لغوية مرهقة وخطاب فارغ.
وظيفته لا تتعدى التصفيف الإعلامي لخرابٍ يدّعي السيادة، لكنه يُزيّن سقوطه بلغة مهنية، كما يُرشّ عطر رخيص على جثة إعلامية متعفّنة.
وكما قال الخاتم عدلان:
“ليست المصيبة في أن تحكمنا عصابة، بل في أن تجد لها من يُبرر، من يُغلف خطابها، من يجعل من الهزيمة إنجازًا.”
والإعيسر هو ذلك الغلاف، ذلك الملمّع، الستار الرمزي الذي يُغطّي الجُرح المفتوح بتقارير محنّطة.
لكن، في جمهورية الأكاذيب، كل شيء ممكن.
الوزير، الذي يقف اليوم على أطلال الإعلام السوداني، كما يقف القائد المهزوم على خرائب معركة خاسرة، ظن أن الصين ستنقذ حكومته من الانهيار، كما أنقذتهم من صيانة “قاعة الصداقة”. وكأن الطائرات المُدمّرة ستتوقف احترامًا لذلك المبنى!
“الثقافة” عنده أصبحت حائط مناحة رسمي، و”الإعلام” تحوّل إلى كتيبة ناعمة في خدمة القتل، تمامًا كما حوّل الكيزان جهاز الأمن إلى دار نشر.
الوزير الذي لا يفرّق بين وثيقة التشغيل وشهادة وفاة، لا يكتب خطابًا، بل يكتب اعترافًا:
بأنهم عاجزون، مفضوحون، بلا سيادة، بلا حلفاء، وبلا فهم للعالم الذي يقتلهم بايديهم.
في النهاية، لم تُسقط الطائرة… بل سقط الوزير، واقفًا، على توقيعه وسقطت الوزارة
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.