في العام 1928، وُلدت جماعة الإخوان المسلمين في مصر، لا كحركة إصلاحية خالصة كما تدّعي، بل كأداة صنعتها أجهزة المخابرات الدولية، لتُجهّز المسرح العربي لمراحل الانقسام والتفكك. ومنذ تلك اللحظة، لم تكن الجماعة سوى حصان طروادة تسلل إلى وعي الشعوب تحت عباءة الدين، فملأته صخبًا بالشعارات، وفراغًا في المضمون، ومكرًا في الغايات.
لقد تلبّست الجماعة ثوب القداسة، وروّجت لنفسها باعتبارها المخلّص المنشود، بينما كانت في حقيقتها تُعيد تشكيل الخرائط خدمة لأجندات لا صلة لها بمصلحة الأمة، بل تهدف فقط إلى السيطرة والتمكين، ولو على ركام الأوطان.
مشروع دخيل بثوب محلي
لم تكن جماعة الإخوان وليدة بيئة اجتماعية تبحث عن الإصلاح، بل كانت استجابة لحاجة استعمارية لإنتاج تنظيم عقائدي يمكن تطويعه لضرب الحركات الوطنية، وإشغال المجتمعات عن قضاياها الكبرى. ومن مصر، امتدت أذرع الجماعة إلى العراق، ثم السودان، وسوريا، واليمن، وتونس، وليبيا، وأخيرًا إلى غزة، في مشهد تتكرّر فيه ذات النتيجة في كل مرة: تفكك داخلي، وصراع أهلي، ومشروع حكم لا يقوم إلا على العنف والخداع.
في قطاع غزة، كانت الفاجعة الكبرى، حين دفعت حماس – أحد أذرع الجماعة – الشعب الفلسطيني إلى مسلخ دموي في 7 أكتوبر 2024، في مغامرة متهورة جعلت من القطاع أرضًا محروقة، ودفع الأبرياء ثمن حسابات لا علاقة لها بالمقاومة، بل بإعادة إحياء مشروع سياسي ميت. وهكذا أُعيدت غزة إلى ما بعد نقطة الصفر، بينما ظل قادة الجماعة يُتقنون فن الهروب والادعاء، ويبيعون المأساة كأنها بطولة.
+التجربة السودانية: حين يسقط الوطن رهينة*
في السودان، كانت الضربة الأقسى. ففي الثلاثين من يونيو 1989، أطاحت الجبهة الإسلامية القومية بالحكومة المنتخبة، وأدخلت البلاد في حقبة مظلمة لا تزال فصولها تتوالى حتى اليوم. منذ تلك اللحظة، بدأت ملامح الدولة السودانية تتلاشى أمام مشروع “التمكين”، حيث اختُطفت مؤسسات الدولة، وهُمّشت الكفاءات، وتحوّلت الخدمة المدنية إلى مجرد امتداد للتنظيم.
ولعل أحد أكثر المشاهد فظاعة، كان في عام 1995، حين تورط النظام – بقرار من قياداته المرتبطة بالتنظيم الدولي – في محاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في أديس أبابا. هذه المغامرة الحمقاء، لم تجرّ سوى الويلات على السودان، حيث تم عزله دوليًا، وفرضت عليه عقوبات قاسية، وفَقَد على إثر ذلك سيادته على مثلث حلايب وشلاتين وأبو رماد، كما أصبح البحر والجو السوداني رهينًا للتدخلات الخارجية، بينما ظل قادة الجماعة يتاجرون بالوطن كما يتاجر المفلس بأملاك غيره.
ثم جاءت القاصمة الكبرى: فصل جنوب السودان، في لحظة كانت كافية لتمزيق روح الوطن. لم يكن ذلك ناتجًا عن مؤامرة دولية فحسب، بل كان تتويجًا لفشل مشروع الإخوان في بناء دولة تتسع للجميع، دولة تقيم العدل وتحتضن التنوع. وهكذا، خسرنا ثلث الوطن وأغلب موارده، فقط لأن الجماعة رأت في التمكين غاية، وفي التنوع خطرًا.
الحرب… التجلي الأخير لعقلية الخراب
اندلاع الحرب في السودان في أبريل 2023 لم يكن مجرد صراع بين قوتين مسلحتين، بل كان انعكاسًا مباشرًا لفشل مشروع الإسلام السياسي في إدارة الدولة والمجتمع. ومع أول رصاصة، عادت وجوه الإخوان القديمة لتطل من بين الركام، تُبرر، وتُحرّض، وتُعيد إنتاج خطاب الانقسام.
لقد كانت الحرب بالنسبة لهم فرصة ذهبية لاستعادة النفوذ، ليس عبر البناء، بل عبر إعادة إنتاج الفوضى. وما بين الخراب والدم، لم يكن للإخوان سوى وجه واحد: وجه من يرقص على الجراح، ويبتسم في وجوه الموتى، ويواصل خُطب التمكين في وطن ينزف.
من العراق إلى سوريا… ذات الكارثة
في العراق، كانت الجماعة أداة في يد الطائفية، وفي سوريا سرقت أحلام الثورة، وفي ليبيا صنعت من السلطة الانتقالية سوقًا لتبادل الغنائم، وفي تونس مزّقت التجربة الديمقراطية باسم الشرعية، لتُثبت في كل مرة أن الشعارات وحدها لا تبني، وأن المشروع الإخواني – حيث حلّ – لم يترك وراءه إلا الأطلال.
الدين وسيلة للهيمنة
المشكلة مع الإخوان لم تكن في شعاراتهم، بل في توظيفهم الخبيث للدين. جعلوا من الدين مطيّة للوصول إلى السلطة، واستبدلوا فقه الإصلاح بفقه الغنيمة، وجعلوا من الولاء للتنظيم فوق الولاء للأوطان. لا شريعة نُفذت، ولا عدل تحقق، بل مجرد واجهة خطابية تخفي وراءها مشروعًا سلطويًا إقصائيًا، لا يرى في الآخرين سوى عقبة يجب إزالتها.
كلمة أخيرة
بعد قرنٍ من التأسيس، تتضح الصورة بجلاء: لم تكن جماعة الإخوان المسلمين يوماً مشروع بناء، بل كانت منذ لحظتها الأولى مشروعًا لتفكيك المجتمعات من الداخل. وقد آن أوان أن تعي الشعوب العربية أن هذا التنظيم، الذي سوّق لنفسه لسنوات كصوت الإسلام، هو أبعد ما يكون عن الدين، وأقرب ما يكون إلى الاستبداد.
الإخوان المسلمون تنظيم عاش على وهم القداسة، واشتغل على خراب الدول، وها هو الآن ينهار تحت ثقل خطاياه… وسيكتب التاريخ أنهم خانوا الله، وخانوا الأوطان، وخانوا الشعوب.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.