“عندما يُستهدف الأبرياء، يُنتهك جوهر إنسانيتنا. الصمت ليس حيادًا، بل تواطؤ.”
— كوفي عنان
ما بعد مجزرة الكيماوي ليس كما قبلها. إنها لحظة فاصلة في ضمير العالم، وفي وجدان كل سوداني. حين تُطلق غازات قاتلة على المدنيين العُزّل، فإن الصمت لم يعد ممكنًا، والحديث عن “أطراف النزاع” يفقد توازنه ومصداقيته. هذه جريمة لا تبرير لها، وكارثة تكشف بجلاء الانهيار الكامل لمنظومة الدولة، وعلى رأسها الجيش الذي فشل في حماية الشعب وتحول إلى أداة حرب وأداة قتل جماعي.
ما حدث ليس مجرد تجاوز عسكري، بل جريمة حرب موثقة، وفقًا لتقارير طبية وشهادات ميدانية من مناطق مثل “دارفور” و”الخرطوم” و”أم درمان”، حيث استخدمت القوات الجوية أسلحة يُشتبه أنها تحتوي على غازات سامة ضد أحياء مكتظة بالمدنيين. لم تكن هذه ضربات خاطئة، بل كانت ضربات متعمّدة ضد السكان، وهي بذلك ترتقي إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية.
إن المجتمع الدولي، وفي مقدّمته الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي، لم يعد بإمكانه الاكتفاء بالبيانات القلقة. الصمت عن استخدام الكيماوي هو تواطؤ. المطلوب تحقيق دولي عاجل، وإحالة المسؤولين عن هذه الجرائم إلى المحكمة الجنائية الدولية، بما في ذلك قيادات في الجيش السوداني يشتبه بتورطها المباشر أو بالتغطية عليها. كما أن فرض حظر جوي على المناطق المدنية، ولو مؤقتًا، أصبح ضرورة إنسانية عاجلة، حماية لما تبقى من أرواح بريئة تحت نيران الطيران الحربي الحكومي.
الجيش لم يعد جيشًا وطنيًا، بل ميليشيا مقنّعة. يتكوّن من بقايا تحالفات الإسلاميين، وضباط مرتبطين بمصالح قبلية وجهوية، ومراكز نفوذ فاسدة (زبائنية) نشأت خلال عقود النظام السابق. ليس هذا الجيش سوى أداة إرهاب داخلي، تُستخدم لترهيب السودانيين لا لحمايتهم. السلاح الكيماوي هو فقط تتويج لمسار طويل من الانهيار الأخلاقي: من قصف المستشفيات والمخابز، إلى المجازر في الجنينة وكُتم وكرينيك، إلى حملات التطهير العرقي في غرب دارفور، وكلها موثّقة بالصوت والصورة.
الحقيقة أصبحت واضحة لكل من له عينان: لا مستقبل للسودان في ظل جيش، عبارة عن مليشيا عقائدية، تستسهل استخدام الأسلحة المحرمة دوليًا وتقتل شعبها. المطلوب هو تفكيك هذه المؤسسة بالكامل، لا إصلاحها، وإنشاء جيش وطني جديد من الصفر، تحت قيادة مدنية، بعقيدة دفاعية تحمي المواطن لا تفتك به. الحديث عن “إصلاح تدريجي” وهم كبير، ومسار ثبت فشله. لا يمكن التعايش مع من ارتكب المجازر ضد شعبه. لا يمكن منح القتلة فرصة جديدة. العدالة هي نقطة البداية، والمحاسبة هي شرط السلام.
كتبت الأستاذة رشا عوض مقالة بعنوان “الجيش المصري في السودان” ركّزت فيها على أنّ الجيش السوداني لم يكن يومًا جيشًا وطنيًا، بل أداة تابعة لمصر منذ تأسيسه، خادمًا لمصالحها في السودان، وخاضعًا بالكامل للهيمنة المصرية، ما يجعل بنية الجيش معادية لأي مشروع وطني مستقل، ويفسر مواقف قادته من التفريط في الأراضي السودانية والثوابت الوطنية والثروات الطبيعية.
ختامًا، لا يحتاج السودان إلى تسوية جديدة تُعيد تدوير الجنرالات والمجرمين، بل يحتاج إلى قطيعة حاسمة مع دولة العسكر ومليشيات الإسلام السياسي. كل تأخير في هذه القطيعة يعني مزيدًا من الدم، ومزيدًا من المدنيين الذين سيسقطون تحت أنقاض منازلهم بفعل غارات الكيماوي أو القصف الجوي.
الكيماوي ليس فقط جريمة، بل نداء دموي يدفعنا لقطع الطريق على الدولة القديمة، ويحثنا لكتابة دستور جديد، بأدوات جديدة، ويحفزنا لصناعة مؤسسات خالية من التلوث العسكري والديني.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.