لما سقطت طهران… صرخت بورسودان وأبواقها

عمار نجم الدين

نفترق عن لحظة تاريخية تفصلنا عن سقوط أقدم دكتاتورية دينية في الشرق الأوسط.
نظام طهران، الذي لبس عباءة الدين ليغطي بها قبضة الحديد والنار، يترنح اليوم تحت ضربات الداخل والخارج. أربعون عامًا من القمع باسم “الولاية”، من الدم باسم “الثورة”، من الاستبداد المذهبي المغلف بشعارات المقاومة، تقترب من نهايتها.
إنه ليس مجرد نظام ينهار، بل مشروع كامل من التوظيف الديني للقمع، من تحويل المساجد إلى مراكز مخابرات، ومن جعل الله ستارًا لحكم الفرد وسجن الجماعة.
ما نراه اليوم ليس حربًا على إيران، بل تمردًا على الفكرة القديمة: أن الدين يمكن أن يكون درعًا لدكتاتور، أو مطية لجنرال، أو صوتًا واحدًا يسكت ملايين الأصوات.
لم يكن سقوط الطائرات المسيّرة في سماء طهران حدثًا عابرًا في الجغرافيا العسكرية، بل كان سقوطًا صامتًا للجيش السوداني في بورتسودان. هناك، بعيدًا عن مركز المعركة، جلس قادة ما تبقى من “القيادة العامة” يراقبون بقلق انهيار موردهم الأخير، لا على شكل ذخائر أو طائرات فقط، بل كرمزية كاملة لحبل نجاتهم الذي بات اليوم مقطوعًا.
منذ أن خذلتهم إسرائيل وأدار لهم الغرب ظهره، توجّه البرهان إلى طهران كمن يقبّل يد سيده بدون كرامة أو هوية . صفقة من تحت الطاولة، لا حبًا في “الممانعة”، بل لتثبيت سلطته على بلد يتآكل. وفعلاً، جاء الدعم: مسيّرات أبابيل و مهاجر و قطع غيار، مدربون، وربما أكثر. لكن كل ذلك كان مؤقتًا… مجرد أوكسجين صناعي لجسد عسكري ميت سريريًا.
ثم جاء المشهد الذي لم يتوقعه أحد في بورتسودان: إيران تُضرب. الطائرات تُسقط. مخازن الأسلحة تنفجر. الخطوط اللوجستية تتبخر. وفجأة، لم يتبقَّ لقادة الجيش هناك سوى المنصات والبيانات و”صراخ سيادي” لا يسمعه أحد إلا أبواقهم. لم يصمتوا لأنهم شرفاء، بل صرخوا لأنهم انكشفوا.
على الأرض، لم يكن خصومهم ينتظرون دعمًا من أحد. ألد-م الس-ر-يع، الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، حركة تحرير السودان، حركة العدل والمساواة، وسائر التنظيمات الأخرى، لم تبنِ مشروعها من إيران أو قطر . بل من الميدان.
هؤلاء لا يتحدثون عن “السيادة” بل يعيشونها. لا يحرسون موانئ فارغة بل يشيدون شرطة مدنية، يعيدون بناء القضاء، يكتبون دستورًا فوق سلطات البندقية.
وفي اللحظة التي سقطت فيها أول مسيّرة في إيران، سقطت معها آخر أوهام البرهان. لم يعد هناك دعم، لا من الشرق ولا من الغرب. من كان يُسوّق نفسه كضامن لوحدة السودان، بات نفسه أبرز أسباب تفككه.
ما يحدث الآن ليس مجرد حرب. إنها كتابة جديدة للتاريخ. لم يعد السودان يُرسم على طاولة الجنرالات. بل يُصنع في القرى التي قاومت. في المدن التي انتفضت. في الأصوات التي سُحقت ثم عادت لتبني لا لتنتقم.
وهكذا، بينما تذرف بورتسودان دموعًا باردة على حليفها الإيراني، تمضي قوى التأسيس لتكتب نهاية النظام الذي استعبد السودان من المركز، وبداية وطنٍ يُحكم من الأطراف… لا من القاهرة أو طهران أو الدوحة .

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.