حين كنا نحذّر من أن مأزق السودان ليس سياسيًا سطحيًا، بل مأزق بنيوي عميق متجذر كانت أصوات كثيرة – بعضها قادم من رحم الهامش نفسه – تدافع باستماتة عن مركز الهيمنة الاستعماري مني أركو مناوي، مثلًا، لم يكن مجرد قائد متمرد سابق، بل أصبح تجسيدًا لنخبة دارفورية جديدة ورثت سلطة الداخل، وتواطأت مع الجلابة في قهر شعبها، ثم راحت تتصارع معهم على فتات الامتيازات.
فكما للمركز نخبة “جلابية” نيلية ورثت إدارة المستعمر الإنجليزي والمصري، وشكلت الطبقة الحاكمة باسم الوطن مستغلة قبايلها ( الشايقية و الجعليين و الدناقلا ) ، كذلك تشكّلت في دارفور نخبة سلطوية – لا تمثل القبيلة بل تستغلها – احتكرت السلطة والثروة داخل الإقليم. هذه النخبة – وعلى رأسها نخبة الزغاوة – لم تكن يومًا صوتًا للنازحين في معسكرات الذل، بل كانت حارسة لبوابة المركز في الهامش، تمتص الدعم وتعيد تسويقه كأداة للقمع والابتزاز.
هذه الظاهرة ليست سودانية فقط. هي سلوك كولونيالي كلاسيكي: في الجزائر، سلّح الاستعمار الفرنسي بعض القيادات القبلية لقمع الثورة، ثم تخلّى عنهم بعد الاستقلال. في رواندا، استخدم البلجيك التوتسي لحكم الهوتو، ثم انقلب المشهد فاندلعت المجازر. في جنوب أفريقيا، كان هناك دائمًا “أفارقة ناطقون باسم البيض”، يحرسون منظومة الفصل العنصري من الداخل. وفي العراق، صنع البعث نخبًا عشائرية مخصيّة باسم العروبة، ثم سحقها حين انتهت وظيفتها. النموذج واحد: وكيل محلي، بجلابية أو بربطة عنق، يتولى المهمة القذرة نيابة عن المستعمِر أو المركز.
كان المشهد في السودان مسرحيًا عبثيًا: ناجون من الغرق في المتوسط، منحهم اللجوء سقفًا وأمانًا، فارتدّوا أقنعة “الزومبي” وراحوا ينهشون كل صوت ينادي بتفكيك بنية القهر. هاجموا حمدوك في شوارع لندن – ذلك المدني الذي أسقطه انقلابهم ( انقلاب الموز) … تكلّم فقط و لم يحمل سلاحاً … وفي الخلف، وقف الجلابي يصفق، ويضحك و مستلقياً على ظهره ضاربا أقدامه في الهواء على ذلك العرض الذي يحرك خيوطه من وراء الستار .
لكن التاريخ لا يضحك طويلاً. الزومبي انقلبوا على مدرّبهم. لا لأنهم اكتشفوا فجأة معنى العدل، بل لأنهم طُردوا من وليمة السلطة. كانوا يرضون بالفتات، وحين حُرموا منه، تذكّروا فجأة “العنصرية”، وخرجوا يصرخون في الإعلام كأطفال نزعت منهم ألعابهم.
لم يذرف أحدهم دمعة على نازحي دارفور. لم تُطلَق رصاصة واحدة باتجاه “الدّعـم السّريـع”، إلا بعد أن أُودِعت في جيوبهم 120 مليون دولار من الخزينة ذاتها التي قتلت أهلهم و صنعت موسى هلال و شكرت الله … قاتلوا دفاعًا عن أم درمان لا عن معسكر كلمة. عن حجر العسل لا عن جبل مرة. عن حجر الطير و ليس عن كرنوي عن كل ( الأحجار الكريمة ) بين ضفتي النهر … وحين ضاقت بهم الإقامة في الشمال، عادوا يبتزّون الدولة ببرود: إمّا المال، أو نعود إلى حميدتي… أو نتحوّل إلى “تأسيس”.
هؤلاء ليسوا قبائل، بل نخبٌ تستغل القبيلة. ليسوا شعب الزغاوة الفقير، الذي عاش عقودًا في المعسكرات، و الإبادة بل متسلّقون يحتمون بهويات جزئية لتبرير تحالفهم مع المستعمِر المحلي. وهم بذلك يشبهون الجلابي تمامًا: يستخدمون لغة الوطن حين تخدمهم، ويلعنونها حين تُغلق الخزينة.
اليوم، حين يهاجم أحدهم البرهان الذي أسبغوا عليه يوماً لقب “القائد العظيم”، نعرف أن العرض لم ينتهِ بعد. كل ما في الأمر أن المشهد تغيّر. وحين تلوّح لهم السلطة من بعيد، يرمون خطابهم في أقرب مصرف نفايات، ويرتدون من جديد زيّ المخبر، مطلقين الزومبي المنفلت في شوارع أوروبا، ينهشون ما تبقى من كرامة الخطاب.
هكذا تتحوّل المأساة إلى مهزلة. وتتحول القبائل من ضحايا إلى أوراق مساومة بيد (نخبها) . ويُعاد إنتاج الاستبداد من المنفى… لكن هذه المرة، بلهجة هامشية، كاذبة .
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.