الدولة العلمانية .. هل سيمضي السودان في طريق تركيا؟

نيربي – عين الحقيقة

عقب خروج السودان من حقبة حكم النظام الشمولي الذي امتد زهاء الثلاثين عاما أضحى الحديث عن علمانية الدولة يتصاعد بصوت أعلى، ولكن مع تأثير تيار الإسلام السياسي في المشهد ادى الي اتخاذ محاذير من استغلال قوى الردة تلك المساعي والمتاجرة بها، وواجهت الحكومة الانتقااية السابقة برئاسة الدكتور عبد الله حمدوك معضلات ضخمة بسبب ادعاءات كونها تتبع نهج العلمانية، وإتساقا مع المتغيرات السياسية ظلت هنالك أسئلة حائرة متعددة عالقة عن مدى تقبل نموذج حكم علماني علي غرار تركيا، ويستلهم دعاة هذا النموذج من تجربة حكم الاسلامين الفاشلة التي قادت البلاد الى الوضع الراهن، فضلاً عن ان السودان بحاجة ماسة الى هذا النموذج مع وجود التعدد الفكري والديني والثقافي.

وفي فبراير الماضي وقعت قوى سياسية مع الدعم السريع على ميثاق السودان التأسيس وحمل الميثاق نصا جرئياً أقر نظام حكم علماني ديمقراطي في خطوة وجدت الترحيب الواسع من جهات عدة بما فيها تيارات ذات نهج اسلامي كحزب الأمة القومي حيث وقع الحزب على ميثاق التأسيس بالاضافة الي ممثلين للطرق الصوفية وجماعة انصار السنة المحمدية، وكان قد اجري البرهان خلال فبراير الماضي تعديلات جديدة على الوثيقة الدستورية تنص على مصدرية الدين الإسلامي، وأن اللغة العربية هي الغالبة في البلاد، كما أنها بُدئت بالبسملة؛ خلافاً لما كان عليه سابقاً.

وفي السودان دائما ما يتصاعد سؤال العلمانية والدين: أولوية الدنيوي أم الديني؟ ويجبب على هذا التساؤول عضو حزب البعث أحمد محمود أحمد قائلا ان الذين يعارضون العلمانية يدافعون عن سلطة المصالح، مشيرا الى ان العلمانية تخضع لشرط المكان والزمان وليست ذات نمط واحد وان الذي انتج خطاب العلمانية سودانيا هو الممارسات السيئة لتيار الإسلام السياسي، ونوه ان الواقع السوداني تدنى كثيرا نتيجة لممارسات تيار الإسلام السياسي، والذي اشتغل على اقحام الدين في السياسة وبشكل غير مسبوق، مع الفشل في كل ما تم تجسيده عبر تجربة الحكم، أدى هذا الفعل إلى تراجع الوعي السوداني كثيراً، نتيجة لغياب العقلانية وانتشار الخرافة، عبر خطاب الإسلاميين المنفصل عن الواقع.

وأشار أحمد محمود الى انه في هكذا واقع يبدو طرح موضوع العلمانية كنوع من المغامرة نتيجة للتشويش الذي بدأ يحيط به، وكذلك محاولة تقوية الشفرات المستخدمة ضده من قبل عناصر القوى الرجعية ذات المصالح المرتبطة بشيوع الفكر الديني من جهة، وكذلك تفكير العناصر غير المدركة لطبيعة التحولات التي حدثت في سياق الدولة الحديثة ومحاولة إبقاء الحالة السودانية خارج مجرى التاريخ، وتقوية عناصر التخلف ضمن شيوع خطاب المبتسرين عقلياً، عبر هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ السودان، وبالذات بعد ثورة ديسمبر.

وأكد محمود ان وضع العلمانية أصبح ليس ذلك التقابل بين الدنيوي والديني، والذي يسعى إليه البعض، إنما تأسيس رؤية تقبل بتجاور الدنيوي والديني، كل وفق شروطه ودوره في حياة المجتمع، إذ لا تتم التضحية بالدنيوي من أجل الديني، أو حدوث العكس، واخيرا فإن العلمانية كمفهوم لا يعتبر مفهوما جامدا، إنما يخضع لشرط المكان والزمان، وقابلية تطويعه لخدمة مصالح البشر.

وبعد نيل الاستقلال فإن الدستور الذي حكم البلاد، هو الدستور الذي وضعه الاستعمار البريطاني، ولقد جرت محاولات عديدة من أجل تعديل ذلك الدستور لتبيئته مع الواقع السوداني، ولم يرد عبر المرحلة التي تلت الاستقلال أية أطروحة تتعلق بالعلمانية، لأن الدستور والقوانين كانت مدنية، وبغض النظر عن بعض الملاحظات حولها، إلا أنها تعتبر قوانينا بشرية، يمكن تعديلها أو إلغائها، إذا توفر برلمانا ديمقراطيا.

ويبدو واضحأً ان المأزق الذي أدى لطرح العلمانية خلقه تيار الإسلام السياسي، والذي تحالف مع جعفر نميري في العام 1979، لينتجوا تلك القوانين التي اطلقوا عليها قوانين الشريعة الإسلامية، والتي أدت إلى كوارث فظيعة في الواقع السوداني، من خلال تطبيقاتها المخلة، والتي استهدفت البسطاء، من خلال قطع الأيدي، والجلد، وأصبح نميري، ودون استحقاق، الحاكم باسم الله في الارض، ولهذا ثارت عليه الجماهير السودانية، وعلى قوانينه العرجاء في عام 1985، وتضافر الأمر مع حكم الإسلاميين، والذي دام لثلاثين عاماً، مطبقا قوانيناً قال عنها هي قوانين الشريعة الإسلامية، والتي كان نتاجها الفساد، والسرقات، وتدمير أسس المجتمع، وقيمه.

وبحسب أحمد محمود ان هذا الواقع هو الذي أدى إلى ضرورة تطبيق مبادىء العلمانية في السودان حتي لا تتكرر هذه التجارب، وليترسخ واقع جديد يجنب البلاد الحكم المطلق الذي يستند للدين، ومستغليه، ويؤسس لحكم يرتضيه الناس وبمختلف دياناتهم ومذاهبهم، وفي السياق يري محللون سياسيون ان النقد السلبي الذي يجريه تيار الإسلام السياسي في السودان للعلمانية، والذين يطرحونها، يعبر عن الرؤية المنحسرة تجاه طبيعة المعالجات التي تحتاجها الدولة السودانية، ومن أهمها تحديد العلاقة بين الدين والسياسة، هذه العلاقة إذا لم يتم ضبطها من الممكن أن تقود لاشكالات عديدة كما حدث في الماضي، سواء كان في السودان، وفي عهد تيار الإسلام السياسي، أو في تاريخ الإسلام.

وتأتي الدعوة للعلمانية في الإطار يعتبرها رؤية تعميمية لمهاجمة كافة قوى اليسار، واتهامها بمحاولة تعطيل شرع الله، وحدوده، وتكفيرها تجاه رؤيتها لفصل الدين عن السياسة، وهذا هو الفهم المستخدم للعلمانية لدى اليسار السوداني وبشكل عام لا توجد قوى داخل السودان تسعى لطرد الدين من حياة الناس، إنما تعمل كل قوى اليسار لضبط العلاقة بين الدين والسياسة، حتى لا يتغول الديني على السياسي، أو يستغل السياسي الجانب الديني، من أجل المصالح الخاصة.

وبالنسبة للحزب الشيوعي السوداني، والذي تضعه هذه القوى الدينية كنموذج لانكار الدين في الواقع السوداني يقول في ورقة قدمها في مايو 1999، للتجمع في الخارج، وبعنوان قضايا استراتيجية، يقول الآتي: (السودان متعدد الديانات، والمعتقدات، حيث توجد أغلبية مسلمة، وكذلك مسيحيون، ومعتقدات أفريقية، من هنا شرط التسامح والاحترام في المعتقد الديني كمقدمة للمساواة في المواطنة، حيث لا تخضع المعتقدات لمعيار وعلاقة الأغلبية، والأقلية، ومن هنا أيضاً شرط إقرار حقيقة إن الدين يشكل مكونا من مكونات فكر ووجدان شعب السودان، ومن ثم رفض كل دعوة تنسخ او تستصغر دور الدين في حياة الفرد، وفي تماسك لحمة المجتمع، وقيمه الروحية، والأخلاقية، وثقافاته، وحضارته).

بينما يؤكد حزب البعث العربي الاشتراكي، والذي يزايد عليه تيار الإسلام السياسي، ويتهمه بمحاربة الإسلام، يؤكد هذا الحزب دوما بأن العروبة التي يؤمن بها يمثل الإسلام روحها، ويؤكد دوماً على أهمية الدين في حياة المجتمع، ولكنه ينادي وبوضوح بفصل المؤسسة الدينية عن المؤسسة السياسية، وبشكل أدق فصل الدين عن السياسة.

ولكن ونتيجة للغة الهجوم المتعمد، والمقصود منه تشويه الآخر وقمع المفاهيم التي يتبناها لحل معضلة الدين والسياسة، يحاول تيار الإسلام السياسي تجريم تلك القوى التي تؤسس لعلاقة موضوعية بين الدين والسياسة، وذلك من أجل إفساح المجال لمواصلة مشروعه الديني السياسي، والمؤدي للخراب، ويرى البعض أن هذا العقل الديني – السياسي هو عقل تناقضات بامتياز، فهو يسكت عن كافة أنواع الاختلالات للدين، وهو في الحكم، ولكنه يصبح عقلا تشنجيا، وهو خارج السلطة ويتباكى على الشريعة الإسلامية المهدرة في زمن سلطته، وبالنسبة للكثيرين فإن المطلوب وعبر هذه المرحلة التأكيد على أن هذا التيار هو تيار تخريبي، وتيار مصالح دنيوية، يرفع شعار الدين في وجه كل من ينشد الإصلاح، ويخلط الأوراق من أجل سيادة نمط واحد وهو النمط الذي يستغل الدين من أجل مصالح دنيوية.

وفي السياق المتصل بمسألة العلمانية يقول وزير الشئون الدينية السابق نصر الدين مفرح أنه لديه تحفظات على مشروع علمانية الدولة، ويقول مفرح ان علمانية الدولة تعتبر واحدة من المواضيع المثيرة للجدل في السودان المعاصر، حيث يتفاعل هذا المشروع مع تعقيدات الواقع السوداني المتعدد الأديان والثقافات والأعراق، وتترافق العلمانية غالبًا مع الليبرالية المطلقة التي تنادي بفصل الدين عن الدولة في السودان الذي يشهد صراعاً مسلحاً مما فتح الباب لخطابات الكراهية، والذي بدوره قسم المجتمع على أساس ديني وعرقي وجهوي وإثني، علاوة على تجدد الصراع بين القوى التي تسعى لإبعاد الدين عن السياسة وبين الحركات الدينية التي ترى في الدين منظماً للعلاقات الإنسانية .

وأشار مفرح الى ان السودان بلد متعدد الأديان والثقافات والأعراق، وكذا في الأديان متعدد المذاهب والمشارب الفكرية لذا تتعدد طوائفه وجماعاته ومؤسساته، والعلمانية المفرطة والتي غالبا ما تمتزج باللبرالية (الحرية المطلقة) تجدها تأخذ جانب التشدد خاصة عندما تتبنى فكرة إبعاد أي علاقة للدين والدينيين في مجالات السياسة بل وإلغاء دورهم نهائياً، مع أن الدين نفسه منظم للعلاقات الإنسانية ومحكمها بإلزامية الأخلاق.

ومضى مفرح في حديثه قائلاً: إشانة سمعة أسلمة السياسة عندما طُبقت بطريقة شائنة من قبل الحركة الإسلامية التي حكمت السودان لثلاثة عقود أدى إلى تطرف بعض القوى العسكرية والمدنية في السودان، والتي تكلمت بوضوح عن طرد الدين من الحياة السياسية، مما ينذر بحرب مجتمعية مدنية جديدة، والسبب هو كتم الحرية من جانب وايصاد الباب أمام لفيف من المجتمعات عن ممارسة حقهم في الشأن السياسي بما يتوافق وأسس الحرية والعدالة والمساواة وفق مبدأ المواطنة المتساوية ، وهذه المواجهة ستكون من نوع آخر، لذا السؤال الذي سيظل قائماً، ما هي العلمانية التي يراد تطبيقها في السودان وفق السياق السوداني؟

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.